السقيفة
صفحة 1 من اصل 1
السقيفة
حديث الوفاة :
لم يكن حول النبي (صلى الله عليه وآله) في اللحظات الأخيرة من حياته سوى عليّ (عليه السلام) وبني هاشم، وقد علم الناس بوفاته من الضجيج وعويل النساء، فأسرعوا وتجمّعوا في المسجد وخارجه وهم في حالة من الارتباك والدهشة لا يحيرون جواباً إلاّ البكاء والنواح، وهم على هذه الحالة وإذا بموقف غريب يصدر من عمر إذ خرج بعد أن دخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) والسيف في يده يهزّه ويقول: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أنّ رسول الله قد مات، إنّه والله ما مات ولكنّه قد ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران[1] . ولم يهدأ عمر حتى وصل أبو بكر[2] الى بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فكشف عن وجه النبيّ وخرج مسرعاً، وقال: أيّها الناس، من كان يعبد محمّداً فإنّ محمّداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت، ثمّ تلا الآية: (وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل...)[3].
ثمّ خرج عمر وأبو بكر وأبو عبيدة الجرّاح من البيت الذي فيه جثمان النبي المبارك وتركوه إلى عليّ وأهل بيته المفجوعين بوفاته، وقد أذهلهم المصاب عن كلّ شيء، وقام عليّ (عليه السلام) وأهل بيته (عليهم السلام) بتجهيز النبيّ والصلاة عليه ودفنه، وفي الوقت نفسه كانت قد عقدت الأنصار اجتماعاً لها في سقيفة بني ساعدة لتدبير أمر الخلافة.
الحزب القرشي والأنصار في السقيفة :
ما أن سمع عمر خبر اجتماع الأنصار في السقيفة; حتى أتى منزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفيه أبو بكر، فأرسل إليه أن اُخرج إليَّ، فأجابه بأنّه مشغول، فأرسل إليه عمر ثانيةً أن اُخرج فقد حدث أمر لابدّ أن تحضره.
فخرج إليه أبو بكر، فمضيا مسرعين نحو السقيفة ومعهما أبو عبيدة ومن ثَمّ لحقهم آخرون، فأدركوا الأنصار في ندوتهم ولمّا يتمّ بعدُ الاجتماع ولم ينفضّ أصحابه، فتغيّر لون سعد بن عبادة واُسقط ما في أيدي الأنصار وساد عليهم الوجوم والذهول، ونفذ الثلاثة في تجمّع الأنصار أتمّ نفوذ وأتقنه، ينمّ عن معرفتهم بالنفوس ونوازعها ورغباتها ومعرفتهم بنقاط الضعف التي من خلالها تسقط ورقة الأنصار.
أراد عمر أن يتكلّم فنهره أبو بكر لعلمه بشدّته وغلظته والموقف خطير وملبّد بالأحقاد والأضغان، ويجب أن يستعمل فيه البراعة السياسية والكلمات الناعمة لكسب الموقف أوّلاً ثمّ يأتي دور الشدّة والغلظة.
وافتتح أبو بكر الحديث باُسلوب لبق فخاطب الأنصار باللطف، ولم يستعمل في خطابه أيّ كلمة مثيرة فقد قال: نحن المهاجرون أوّل الناس إسلاماً، وأكرمهم أحساباً، وأوسطهم داراً، وأحسنهم وجوهاً، وأمسّهم برسول الله (صلى الله عليه وآله) رحماً، وأنتم إخواننا في الإسلام، وشركاؤنا في الدين، نصرتم وواسيتم، فجزاكم الله خيراً، فنحن الاُمراء وأنتم الوزراء، لا نفتات عليكم بمشورة، ولا نقضي دونكم الاُمور، فقال الحباب بن المنذر بن الجموح: يا معشر الأنصار! املكوا عليكم أمركم، فإنّ الناس في ظلّكم ولن يجترئ مجترئ على خلافكم، ولا يصدر أحد إلاّ عن رأيكم، أنتم أهل العزّة والمنعة، واُولو العدد والكثرة، وذوو البأس والنجدة، وإنّما ينظر الناس ما تصنعون فلا تختلفوا فتفسد عليكم اُموركم، فإن أبى هؤلاء إلاّ ما سمعتم فمنّا أمير ومنهم أمير، فقال عمر: هيهات لا يجتمع سيفان في غمد، والله لا ترضى العرب أن تؤمّركم ونبيّها من غيركم، ولا تمتنع العرب أن تولّي أمرها من كانت النبوّة منهم، فمن ينازعنا سلطان محمّد ونحن أولياؤه وعشيرته.
فقال الحباب بن المنذر: يا معشر الأنصار! املكوا أيديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم; فاجلوهم من هذه البلاد، وأنتم أحقّ بهذا الأمر منهم، فإنّه بأسيافكم دانَ الناس بهذا الدين، أنا جذيلها المحكك وعُذيقها المرجَّب، أنا أبو شبل في عرينة الأسد، والله إن شئتم لنعيدها جذعة.
وهنا تأزّم الموقف وكاد أن يقع الشرّ بين الطرفين، فوقف أبو عبيدة بن الجرّاح ليَحُول دون ذلك ويتدارك الفشل، فقال بصوت هادئ مخاطباً الأنصار: يا معشر الأنصار! أنتم أوّل من نصر وآوى، فلا تكونوا أوّل من بدّل، وانسلت كلماته هادئةً الى النفوس، فسادَ الصمت لحظات على الجميع، فاغتنمها بشير بن سعد لصالح المهاجرين هذه المرّة، يدفعه لذلك حَسده لسعد بن عبادة فقال: يا معشر الأنصار! ألا إنّ محمّداً من قريش وقومه أولى به، وأيم الله لا يراني الله اُنازعهم هذا الأمر.
فاغتنم المهاجرون الثلاثة هذه الثغرة في جبهة الأنصار، فطفقوا يقدّم بعضهم بعضاً، فبدا أنّهم لم يروا أنّ واحداً منهم يدعمه نصّ شرعيّ أو يختص بميزة ترفع من رصيده مقابل غيره فتؤهّله للخلافة.
فقال أبو بكر: هذا عمر وأبو عبيدة بايِعوا أيّهما شئتم[4]، وقال عمر: يا أبا عبيدة ابسط يدك اُبايعك، فأنت أمين هذه الاُ مّة[5]، فقال أبو بكر: يا عمر! ابسط يدك نبايع لك، فقال عمر: أنت أفضل منّي، قال أبو بكر: أنت أقوى منّي، قال عمر: قوّتي لك مع فضلك ابسط يدك اُبايعك[6] فلمّا بسط يده ليبايعاه سبقهما بشير بن سعد فبايعه، فناداه الحباب بن المنذر: يا بشير! عَقَّتك عقاق أنفِستَ على ابن عمّك الإمارة؟
ولمّا رأت الأوس ما صنع بشير وما تطلب الخزرج من تأمير سعد; قال بعضهم لبعض وفيهم اُسيد بن خضير وكان نقيباً: والله لئن وليتها الخزرج مرّة; لازالت عليكم بذلك الفضيلة أبداً، فقوموا فبايعوا أبا بكر، فانكسر على سعد والخزرج ما أجمعوا عليه، وأقبل أصحاب اُسيد يبايعون أبا بكر[7]، وقالت بعض الأنصار: لانبايع إلاّ عليّاً[8].
ثم أقبل أبو بكر والجماعة التي تحيط به يزفّونه إلى المسجد زفاف العروس[9] والنبيّ (صلى الله عليه وآله) لازال ملقىً على فراش الموت، وعمر يهرول بين يديه وقد نبر حتى أزبد شدقاه وجماعته تحوطه وهم متّزرون بالأُزر الصنعانية، لا يمرّون بأحد إلاّ خبطوه وقدّموه، فمدّوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه شاء ذلك أو أبى[10].
لقد كانت حجّة الحزب القرشي في السقيفة ضد الأنصار مبنيّة على أمرين:
1 ـ إنّ المهاجرين أوّل الناس إسلاماً.
2 ـ إنّهم أقرب الناس إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمسّهم به رحماً.
وقد أدان هؤلاء القادة أنفسهم بهذه الحجّة، وذلك لأنّ الخلافة إذا كانت بالسبق إلى الإسلام والقرابة القريبة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ كما يدّعون ـ فهي لعليّ (عليه السلام) وحده، لأنّه أوّل الناس إسلاماً وإيماناً وتصديقاً بالرسالة الإسلامية، وأخوه بمقتضى المؤاخاة التي عقدها النبيّ بينه وبين عليّ يوم آخى بين المهاجرين في مكّة، وبينهم وبين الأنصار في المدينة، وابن عمّه نسباً وأقرب الناس الى نفسه وقلبه بلا شكّ في ذلك.
تحليل اجتماع السقيفة :
سارع الأنصار الى سقيفة بني ساعدة، وعقدوا لهم اجتماعاً سرّياً أحاطوه بكثير من الكتمان والتحفّظ، وأحضروا معهم شيخ الخزرج سعد بن عبادة الذي كان مريضاً، فقال لبعض بنيه: إنّه لا يستطيع أن يسمع المجتمعون صوته لمرضه، وأمره أن يتلقّى منه قوله ويردّده على مسامع الناس، فكان سعد يتكلّم ويستمع اليه ابنه، ويرفع صوته بعد ذلك، قال سعد مخاطباً الحاضرين:
إنّ لكم سابقةً إلى الدين وفضيلةً في الإسلام ليست لقبيلة من العرب، إنّ رسول الله لبث في قومه بضع عشرة سنة يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأوثان، فما آمن من قومه إلاّ قليل، حتى أراد بكم خير الفضيلة، وساق إليكم الكرامة، وخصّكم بدينه، فكنتم أشد الناس على من تخلّف عنه، وأثقلهم على عدوّه من غيركم، ثمّ توفّاه الله وهو عنكم راض. فشدّوا أيديكم بهذا الأمر فإنّكم أحقّ الناس وأولاهم.
لكنّ المتتّبع للأحداث يلمح أنّ اجتماع الأنصار لم يكن في بداية أمره للاستئثار بتراث النبيّ (صلى الله عليه وآله) واغتصاب الخلافة من أهلها الشرعيّين، وذلك من خلال ملاحظة ما يلي:
1 ـ عدم حضور خيار الأنصار وهم البدريّون في الاجتماع، مثلُ : أبي أيوب الأنصاري، حذيفة بن اليمان، البراء بن عازب، عبادة بن الصامت.
2 ـ إنّ الأنصار كانوا يعلمون جيّداً النصوص النبويّة ويحفظونها، ومنها: أنّ الأئمة من قريش، وعرفوا جيّداً الأحكام الواردة في شأن العترة الطاهرة وشهدوا تنصيب عليّ (عليه السلام) في غدير خم، وأوصاهم النبيّ (صلى الله عليه وآله) بعليّ وأهل بيته (عليهم السلام)، وحين أدركوا أنّه ليس له دور رئيس في الحكم أخذوا يقولون: لا نبايع إلاّ عليّاً[11].
3 ـ ثمّ إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا زال مسجّىً ولم يُدفن بعدُ، فهل يعقل أن لا يشارك خيارهم في شرف حضور مراسم الدفن وينشغلوا في اجتماع انتخاب الخليفة؟
4 ـ من الممكن تفسير اجتماعهم هذا بأنّه لتقرير مصيرهم من الحكم الجديد بعد علمهم بما تخطّط له قريش من تطبيق قرارهم «لا تجتمع النبوّة والخلافة في بني هاشم»، وهم ليست لهم دوافع كالتي كانت في نفوس زعماء قريش، ثمّ إنّ تخوّفهم هذا له سوابق فبعد فتح مكّة; خشيت الأنصار أن لا يعود معهم النبيّ (صلى الله عليه وآله) وكان طبيعيّاً أن يتخوّفوا من العزلة السياسية والإداريّة.
وإذا قرّرت قريش صرف الخلافة عن صاحبها الشرعيّ وهو عليّ (عليه السلام); فما دور الأنصار وهم الثقل الأكبر في جمهور المسلمين، ولهم الدور الفاعل والرئيس في نشر الرسالة الإسلاميّة ؟ !
إنّ اجتماع الأنصار في السقيفة لم يكن حاسماً في قراراته، فقد عُقد لدراسة الاحتمالات المتوقّعة للخلافة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) ، وأيضاً لم يكن جميع الأنصار على رأي واحد، فقد كانت تختفي في اُفق الاجتماع نوايا متنافرة وتنطوي النفوس على رغبات متضادّة، فنجد بعضهم يجيب سعداً قائلاً : وفّقت في الرأي وأصبت في القول، ولن نعدو ما رأيت، نولّيك هذا الأمر.
ثمّ ترادّوا في الكلام فقالوا: فإن أبى المهاجرون وقالوا نحن أولياؤه وعشيرته.
وهنا انبرى آخرون فقالوا: نقول: منّا أمير ومنكم أمير، فعلّق سعد على هذا الاقتراح قائلاً: فهذا أوّل الوهن[12].
إنّ الأنصار بموقفهم هذا قد هيّأوا فرصة سياسية ثمينة ما كانت لتفوت الجناح المترقّب للفوز بالسلطة، وفتحوا باب الصراع على مصراعيه بعيداً عن القيم والأحكام الإسلامية; إذ قدّمت فيه الحسابات القبلية على الحسابات الشرعية، وتقدّمت فيه مصلحة القبيلة على مصلحة الرّسالة الإسلامية.
وقد اعتذر عمر من مباغتة الأنصار في السقيفة فقال: وإنّا والله ما وجدنا أمراً هو أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإمّا أن نتابعهم على ما لا نرضى أو نخالفهم فيكون الفساد...[13].
وهكذا أخذ الموقف السياسي يزداد تعقيداً وإعضالاً.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الكامل في التأريخ: 2 / 323.
[2] يروى أنّ أبا بكر كان في «السنح» وهو محل يبعد عن المدينة بميل واحد أو أكثر قليلاً.
[3] آل عمران (3): 144 .
[4] الإمامة والسياسة: 1 / 15، وتأريخ الطبري: 2 / 458 ط مؤسسة الأعلمي، والكامل في التأريخ: 2 / 325.
[5] الطبقات الكبرى: 3 / 181.
[6] تأريخ الخلفاء للسيوطي: 70.
[7] الكامل في التأريخ: 2 / 330.
[8] تأريخ الطبري: 2 / 443 ط مؤسسة الأعلمي.
[9] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 6 / 8 .
[10] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1 / 219. ط دار إحياء الكتب العربية .
[11] تأريخ الطبري: 2 / 443 ط مؤسسة الأعلمي.
[12] تاريخ الطبري : 2/444 ط مؤسسة الأعلمي حوادث سنة 11 هـ .
[13] صحيح البخاري: كتاب المحاربين 6 ح6442، وسيرة ابن هشام: 4 / 308، وتأريخ الطبري: 2 / 447 ط مؤسسة الأعلمي.
لم يكن حول النبي (صلى الله عليه وآله) في اللحظات الأخيرة من حياته سوى عليّ (عليه السلام) وبني هاشم، وقد علم الناس بوفاته من الضجيج وعويل النساء، فأسرعوا وتجمّعوا في المسجد وخارجه وهم في حالة من الارتباك والدهشة لا يحيرون جواباً إلاّ البكاء والنواح، وهم على هذه الحالة وإذا بموقف غريب يصدر من عمر إذ خرج بعد أن دخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) والسيف في يده يهزّه ويقول: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أنّ رسول الله قد مات، إنّه والله ما مات ولكنّه قد ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران[1] . ولم يهدأ عمر حتى وصل أبو بكر[2] الى بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فكشف عن وجه النبيّ وخرج مسرعاً، وقال: أيّها الناس، من كان يعبد محمّداً فإنّ محمّداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت، ثمّ تلا الآية: (وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل...)[3].
ثمّ خرج عمر وأبو بكر وأبو عبيدة الجرّاح من البيت الذي فيه جثمان النبي المبارك وتركوه إلى عليّ وأهل بيته المفجوعين بوفاته، وقد أذهلهم المصاب عن كلّ شيء، وقام عليّ (عليه السلام) وأهل بيته (عليهم السلام) بتجهيز النبيّ والصلاة عليه ودفنه، وفي الوقت نفسه كانت قد عقدت الأنصار اجتماعاً لها في سقيفة بني ساعدة لتدبير أمر الخلافة.
الحزب القرشي والأنصار في السقيفة :
ما أن سمع عمر خبر اجتماع الأنصار في السقيفة; حتى أتى منزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفيه أبو بكر، فأرسل إليه أن اُخرج إليَّ، فأجابه بأنّه مشغول، فأرسل إليه عمر ثانيةً أن اُخرج فقد حدث أمر لابدّ أن تحضره.
فخرج إليه أبو بكر، فمضيا مسرعين نحو السقيفة ومعهما أبو عبيدة ومن ثَمّ لحقهم آخرون، فأدركوا الأنصار في ندوتهم ولمّا يتمّ بعدُ الاجتماع ولم ينفضّ أصحابه، فتغيّر لون سعد بن عبادة واُسقط ما في أيدي الأنصار وساد عليهم الوجوم والذهول، ونفذ الثلاثة في تجمّع الأنصار أتمّ نفوذ وأتقنه، ينمّ عن معرفتهم بالنفوس ونوازعها ورغباتها ومعرفتهم بنقاط الضعف التي من خلالها تسقط ورقة الأنصار.
أراد عمر أن يتكلّم فنهره أبو بكر لعلمه بشدّته وغلظته والموقف خطير وملبّد بالأحقاد والأضغان، ويجب أن يستعمل فيه البراعة السياسية والكلمات الناعمة لكسب الموقف أوّلاً ثمّ يأتي دور الشدّة والغلظة.
وافتتح أبو بكر الحديث باُسلوب لبق فخاطب الأنصار باللطف، ولم يستعمل في خطابه أيّ كلمة مثيرة فقد قال: نحن المهاجرون أوّل الناس إسلاماً، وأكرمهم أحساباً، وأوسطهم داراً، وأحسنهم وجوهاً، وأمسّهم برسول الله (صلى الله عليه وآله) رحماً، وأنتم إخواننا في الإسلام، وشركاؤنا في الدين، نصرتم وواسيتم، فجزاكم الله خيراً، فنحن الاُمراء وأنتم الوزراء، لا نفتات عليكم بمشورة، ولا نقضي دونكم الاُمور، فقال الحباب بن المنذر بن الجموح: يا معشر الأنصار! املكوا عليكم أمركم، فإنّ الناس في ظلّكم ولن يجترئ مجترئ على خلافكم، ولا يصدر أحد إلاّ عن رأيكم، أنتم أهل العزّة والمنعة، واُولو العدد والكثرة، وذوو البأس والنجدة، وإنّما ينظر الناس ما تصنعون فلا تختلفوا فتفسد عليكم اُموركم، فإن أبى هؤلاء إلاّ ما سمعتم فمنّا أمير ومنهم أمير، فقال عمر: هيهات لا يجتمع سيفان في غمد، والله لا ترضى العرب أن تؤمّركم ونبيّها من غيركم، ولا تمتنع العرب أن تولّي أمرها من كانت النبوّة منهم، فمن ينازعنا سلطان محمّد ونحن أولياؤه وعشيرته.
فقال الحباب بن المنذر: يا معشر الأنصار! املكوا أيديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم; فاجلوهم من هذه البلاد، وأنتم أحقّ بهذا الأمر منهم، فإنّه بأسيافكم دانَ الناس بهذا الدين، أنا جذيلها المحكك وعُذيقها المرجَّب، أنا أبو شبل في عرينة الأسد، والله إن شئتم لنعيدها جذعة.
وهنا تأزّم الموقف وكاد أن يقع الشرّ بين الطرفين، فوقف أبو عبيدة بن الجرّاح ليَحُول دون ذلك ويتدارك الفشل، فقال بصوت هادئ مخاطباً الأنصار: يا معشر الأنصار! أنتم أوّل من نصر وآوى، فلا تكونوا أوّل من بدّل، وانسلت كلماته هادئةً الى النفوس، فسادَ الصمت لحظات على الجميع، فاغتنمها بشير بن سعد لصالح المهاجرين هذه المرّة، يدفعه لذلك حَسده لسعد بن عبادة فقال: يا معشر الأنصار! ألا إنّ محمّداً من قريش وقومه أولى به، وأيم الله لا يراني الله اُنازعهم هذا الأمر.
فاغتنم المهاجرون الثلاثة هذه الثغرة في جبهة الأنصار، فطفقوا يقدّم بعضهم بعضاً، فبدا أنّهم لم يروا أنّ واحداً منهم يدعمه نصّ شرعيّ أو يختص بميزة ترفع من رصيده مقابل غيره فتؤهّله للخلافة.
فقال أبو بكر: هذا عمر وأبو عبيدة بايِعوا أيّهما شئتم[4]، وقال عمر: يا أبا عبيدة ابسط يدك اُبايعك، فأنت أمين هذه الاُ مّة[5]، فقال أبو بكر: يا عمر! ابسط يدك نبايع لك، فقال عمر: أنت أفضل منّي، قال أبو بكر: أنت أقوى منّي، قال عمر: قوّتي لك مع فضلك ابسط يدك اُبايعك[6] فلمّا بسط يده ليبايعاه سبقهما بشير بن سعد فبايعه، فناداه الحباب بن المنذر: يا بشير! عَقَّتك عقاق أنفِستَ على ابن عمّك الإمارة؟
ولمّا رأت الأوس ما صنع بشير وما تطلب الخزرج من تأمير سعد; قال بعضهم لبعض وفيهم اُسيد بن خضير وكان نقيباً: والله لئن وليتها الخزرج مرّة; لازالت عليكم بذلك الفضيلة أبداً، فقوموا فبايعوا أبا بكر، فانكسر على سعد والخزرج ما أجمعوا عليه، وأقبل أصحاب اُسيد يبايعون أبا بكر[7]، وقالت بعض الأنصار: لانبايع إلاّ عليّاً[8].
ثم أقبل أبو بكر والجماعة التي تحيط به يزفّونه إلى المسجد زفاف العروس[9] والنبيّ (صلى الله عليه وآله) لازال ملقىً على فراش الموت، وعمر يهرول بين يديه وقد نبر حتى أزبد شدقاه وجماعته تحوطه وهم متّزرون بالأُزر الصنعانية، لا يمرّون بأحد إلاّ خبطوه وقدّموه، فمدّوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه شاء ذلك أو أبى[10].
لقد كانت حجّة الحزب القرشي في السقيفة ضد الأنصار مبنيّة على أمرين:
1 ـ إنّ المهاجرين أوّل الناس إسلاماً.
2 ـ إنّهم أقرب الناس إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمسّهم به رحماً.
وقد أدان هؤلاء القادة أنفسهم بهذه الحجّة، وذلك لأنّ الخلافة إذا كانت بالسبق إلى الإسلام والقرابة القريبة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ كما يدّعون ـ فهي لعليّ (عليه السلام) وحده، لأنّه أوّل الناس إسلاماً وإيماناً وتصديقاً بالرسالة الإسلامية، وأخوه بمقتضى المؤاخاة التي عقدها النبيّ بينه وبين عليّ يوم آخى بين المهاجرين في مكّة، وبينهم وبين الأنصار في المدينة، وابن عمّه نسباً وأقرب الناس الى نفسه وقلبه بلا شكّ في ذلك.
تحليل اجتماع السقيفة :
سارع الأنصار الى سقيفة بني ساعدة، وعقدوا لهم اجتماعاً سرّياً أحاطوه بكثير من الكتمان والتحفّظ، وأحضروا معهم شيخ الخزرج سعد بن عبادة الذي كان مريضاً، فقال لبعض بنيه: إنّه لا يستطيع أن يسمع المجتمعون صوته لمرضه، وأمره أن يتلقّى منه قوله ويردّده على مسامع الناس، فكان سعد يتكلّم ويستمع اليه ابنه، ويرفع صوته بعد ذلك، قال سعد مخاطباً الحاضرين:
إنّ لكم سابقةً إلى الدين وفضيلةً في الإسلام ليست لقبيلة من العرب، إنّ رسول الله لبث في قومه بضع عشرة سنة يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأوثان، فما آمن من قومه إلاّ قليل، حتى أراد بكم خير الفضيلة، وساق إليكم الكرامة، وخصّكم بدينه، فكنتم أشد الناس على من تخلّف عنه، وأثقلهم على عدوّه من غيركم، ثمّ توفّاه الله وهو عنكم راض. فشدّوا أيديكم بهذا الأمر فإنّكم أحقّ الناس وأولاهم.
لكنّ المتتّبع للأحداث يلمح أنّ اجتماع الأنصار لم يكن في بداية أمره للاستئثار بتراث النبيّ (صلى الله عليه وآله) واغتصاب الخلافة من أهلها الشرعيّين، وذلك من خلال ملاحظة ما يلي:
1 ـ عدم حضور خيار الأنصار وهم البدريّون في الاجتماع، مثلُ : أبي أيوب الأنصاري، حذيفة بن اليمان، البراء بن عازب، عبادة بن الصامت.
2 ـ إنّ الأنصار كانوا يعلمون جيّداً النصوص النبويّة ويحفظونها، ومنها: أنّ الأئمة من قريش، وعرفوا جيّداً الأحكام الواردة في شأن العترة الطاهرة وشهدوا تنصيب عليّ (عليه السلام) في غدير خم، وأوصاهم النبيّ (صلى الله عليه وآله) بعليّ وأهل بيته (عليهم السلام)، وحين أدركوا أنّه ليس له دور رئيس في الحكم أخذوا يقولون: لا نبايع إلاّ عليّاً[11].
3 ـ ثمّ إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا زال مسجّىً ولم يُدفن بعدُ، فهل يعقل أن لا يشارك خيارهم في شرف حضور مراسم الدفن وينشغلوا في اجتماع انتخاب الخليفة؟
4 ـ من الممكن تفسير اجتماعهم هذا بأنّه لتقرير مصيرهم من الحكم الجديد بعد علمهم بما تخطّط له قريش من تطبيق قرارهم «لا تجتمع النبوّة والخلافة في بني هاشم»، وهم ليست لهم دوافع كالتي كانت في نفوس زعماء قريش، ثمّ إنّ تخوّفهم هذا له سوابق فبعد فتح مكّة; خشيت الأنصار أن لا يعود معهم النبيّ (صلى الله عليه وآله) وكان طبيعيّاً أن يتخوّفوا من العزلة السياسية والإداريّة.
وإذا قرّرت قريش صرف الخلافة عن صاحبها الشرعيّ وهو عليّ (عليه السلام); فما دور الأنصار وهم الثقل الأكبر في جمهور المسلمين، ولهم الدور الفاعل والرئيس في نشر الرسالة الإسلاميّة ؟ !
إنّ اجتماع الأنصار في السقيفة لم يكن حاسماً في قراراته، فقد عُقد لدراسة الاحتمالات المتوقّعة للخلافة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) ، وأيضاً لم يكن جميع الأنصار على رأي واحد، فقد كانت تختفي في اُفق الاجتماع نوايا متنافرة وتنطوي النفوس على رغبات متضادّة، فنجد بعضهم يجيب سعداً قائلاً : وفّقت في الرأي وأصبت في القول، ولن نعدو ما رأيت، نولّيك هذا الأمر.
ثمّ ترادّوا في الكلام فقالوا: فإن أبى المهاجرون وقالوا نحن أولياؤه وعشيرته.
وهنا انبرى آخرون فقالوا: نقول: منّا أمير ومنكم أمير، فعلّق سعد على هذا الاقتراح قائلاً: فهذا أوّل الوهن[12].
إنّ الأنصار بموقفهم هذا قد هيّأوا فرصة سياسية ثمينة ما كانت لتفوت الجناح المترقّب للفوز بالسلطة، وفتحوا باب الصراع على مصراعيه بعيداً عن القيم والأحكام الإسلامية; إذ قدّمت فيه الحسابات القبلية على الحسابات الشرعية، وتقدّمت فيه مصلحة القبيلة على مصلحة الرّسالة الإسلامية.
وقد اعتذر عمر من مباغتة الأنصار في السقيفة فقال: وإنّا والله ما وجدنا أمراً هو أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإمّا أن نتابعهم على ما لا نرضى أو نخالفهم فيكون الفساد...[13].
وهكذا أخذ الموقف السياسي يزداد تعقيداً وإعضالاً.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الكامل في التأريخ: 2 / 323.
[2] يروى أنّ أبا بكر كان في «السنح» وهو محل يبعد عن المدينة بميل واحد أو أكثر قليلاً.
[3] آل عمران (3): 144 .
[4] الإمامة والسياسة: 1 / 15، وتأريخ الطبري: 2 / 458 ط مؤسسة الأعلمي، والكامل في التأريخ: 2 / 325.
[5] الطبقات الكبرى: 3 / 181.
[6] تأريخ الخلفاء للسيوطي: 70.
[7] الكامل في التأريخ: 2 / 330.
[8] تأريخ الطبري: 2 / 443 ط مؤسسة الأعلمي.
[9] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 6 / 8 .
[10] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1 / 219. ط دار إحياء الكتب العربية .
[11] تأريخ الطبري: 2 / 443 ط مؤسسة الأعلمي.
[12] تاريخ الطبري : 2/444 ط مؤسسة الأعلمي حوادث سنة 11 هـ .
[13] صحيح البخاري: كتاب المحاربين 6 ح6442، وسيرة ابن هشام: 4 / 308، وتأريخ الطبري: 2 / 447 ط مؤسسة الأعلمي.
خادم الحسين- مشترك مجتهد
- عدد الرسائل : 125
نقاط : 0
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 13/05/2008
السقيفة
نظرة قريش للخلافة :
حين انطلقت الرسالة الإسلامية في مكّة وبين ظهراني قريش; لم تتمكّن قريش من تحمّل ظهور نبيّ في بطن من خيار بطونها، بل أفضلها وهي بنو هاشم، فاجتمعت كلمة قريش على محاربة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وبني هاشم بكلّ وسائل الحرب ومقاومتهم بشتّى فنون المقاومة وخطّطت للتآمر لا حُـبّاً بالأصنام وما هم عليه من العبادة ولا كراهية للدعوة الجديدة، فليس في الإسلام ما لا ترتضيه الفطرة السليمة[1]، لكن قريشاً لا تريد أن تغيّر صيغتها السياسية القائمة على اقتسام مناصب الشرف والسيادة، وخصوصاً أنّ مجتمع الجزيرة كانت تحكمه النزعة القبلية.
من هنا لم تكن قريش تريد أن يتميّز البطن الهاشمي عن بقيّة بطونها ولا أن يتفوّق عليها، وقد تصوّرت أنّ التفاف الهاشميّين حول النبوّة ودفاعهم المستميت عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) هو إصرار هاشمي على التميّز والرغبة بالتفوّق على الجميع، فحاصرت قريش الهاشميّين في شِعب أبي طالب، وتآمرت على قتل النبيّ، وفشل الحصار وفشلت كلّ محاولات الاغتيال لشخص النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وعلا طوفان الرسالة الإسلامية على كلّ القوى المناوئة، وأسلمت قريش طوعاً أو كرهاً، فلم تعد لقريش قدرة على الوقوف في وجه النبوّة.
ولكنّ إعداد النبيّ (صلى الله عليه وآله) العدّة لتكون الخلافة من بعده لعليّ ولذرّيّته (عليهم السلام) بأمر من الله تعالى وباعتبارهم. أجدر وأعلم باُصول الشريعة وأحكامها، وأنّهم الأفضل من كلّ أتباعه، والأنسب لقيادة الاُ مّة، قد أثار هذا المنطق في نفوس قريش النزعة القبلية والحقد الجاهلي فعزمت أن لا تجمع النبوّة والخلافة في بني هاشم، فالنبوّة والخلافة في عرف قريش سلطان وحكم كما صرّح بذلك أبو سفيان يوم فتح مكّة بقوله للعباس: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً[2].
هذه الفكرة والعقلية سادت في الأجواء السياسية المحمومة في آخر أ يّام النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وقريش مدركة أنّ النبيّ ميّت لا محالة في مرضه هذا، وقد أخبرهم (صلى الله عليه وآله) بذلك، وأيضاً لو تركت الاُمور على مجراها الطبيعي فالخلافة ستؤول الى عليّ (عليه السلام) حتماً. من هنا كان تحرّك الحزب المناوئ لبني هاشم بصورة عامّة ولعليّ (عليه السلام) خاصّة، فكانت السقيفة.
ونجد فكرة عدم اجتماع النبوّة والخلافة في بني هاشم من خلال المحاورة بين عمر وابن عباس في زمن خلافة عمر، حين قال له عمر: يا ابن عباس! أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمّد (صلى الله عليه وآله)؟ قال ابن عباس: فكرهت أن اُجيبه فقلت: إن لم أكن أدري فإنّ أمير المؤمنين يدري، فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوّة والخلافة فتجحفوا على قومكم، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت[3].
وثمّة أمر آخر يتعلّق بموضوع تحويل الخلافة عن عليّ (عليه السلام) وهو أنّ عليّاً (عليه السلام) قد وتر قريشاً في حروبها ضد الإسلام وإنّ كلّ دم أراقه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بسيف عليّ (عليه السلام) وسيف غيره فإنّ العرب بعد وفاته (صلى الله عليه وآله) عصبت تلك الدماء بعليّ وحده، لأنّه لم يكن في رهط النبيّ مَن يستحق في شرع قريش وعاداتهم أن يعصب به تلك الدماء إلاّ عليّ وحده[4].
ملامح التخطيط لإقصاء الإمام عليّ (عليه السلام) عن الخلافة :
نلاحظ أنّ هناك تخطيطاً محكماً لدى الخطّ المناوئ لعليّ (عليه السلام) لأخذ الخلافة منه من خلال ما يلي :
1 ـ بقاؤهم في المدينة ومحاولتهم عدم الخروج منها مهما يكن من أمر، وذلك عندما عرفوا أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قد تدهورت صحّته، كما لاحظوا بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) في تلك الأيام كان يكثر من التوصية بعليّ (عليه السلام) وضرورة اتّباعه لسلامة الدين والدولة.
2 ـ حضورهم الدائم قرب الرسول ومحاولتهم الحيلولة دون حصول شيء يدعم ولاية عليّ (عليه السلام)، فكان الشغب في مجلس النبيّ (صلى الله عليه وآله) تحت الشعار الذي رفعه عمر : «حسبنا كتاب الله» ثمّ اتهام النبيّ المعصوم (صلى الله عليه وآله) بغلبة الوجع ممّا أزعج النبيّ، حيث إ نّ قول النبيّ (صلى الله عليه وآله): «إئتوني : بدواة وكتف» من غير المعقول أن يثير النفور والشكّ في نفوس الجميع دون سابق مضمر في نفوس البعض، فلم يكن داع لاِعتراضهم إلاّ إثارة الشغب ومنع النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن الكتابة.
3 ـ السرعة في البتّ بموضوع الخلافة وإتمام البيعة عبر استغلالهم الفرصة بانشغال الإمام عليّ (عليه السلام) وبني هاشم بمراسم تجهيز النبيّ ودفنه، فحين علم عمر بنبأ الاجتماع في السقيفة; أرسل الى أبي بكر حين دخل الى بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن اُخرج فقد حدث أمر لابدّ أن تحضره، ولم يوضّح ذلك خشية أن يطّلع عليه عليّ أو أحد من بني هاشم، وإلاّ لماذا؟ فهل كان هذا الأمر المهمّ يعني أبا بكر دون بقيّة المسلمين وفيهم من هو أحرص على الإسلام من أبي بكر وعمر؟ ولماذا لم يدخل عمر بنفسه الى داخل دار النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيث يجتمع الناس فيتحدّث اليهم ؟
4 ـ سعيهم لضمان حياد الأنصار وإبعادهم عن ميدان التنافس السياسي بدعوى أنّهم ليسوا عشيرة النبيّ (صلى الله عليه وآله).
5 ـ الترتيب في أخذ البيعة أوّلاً من الأنصار، لأنّ قريشاً لو بايعت الخليفة الجديد; لما كان لبيعتها أدنى قيمة واقعية، ولأمكن الإمام فيما بعد أن يقيم الحجّة على قريش، ولا يمكن لأيّ فرد أن يقف في موقع الندّ لعليّ (عليه السلام) إذا كانت الأنصار في كفّة الإمام.
ويمكن ملاحظة ذلك من طريقة أخذ البيعة بعد الخروج من السقيفة، إذ كان الناس مجتمعين في المسجد فقال عمر: ما لي أراكم مجتمعين حلقاً شتّى ؟ ! قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايعته الأنصار، فقام عثمان ومن معه من بني اُميّة فبايعوا، وقام سعد وعبدالرحمن ومعهما بنو زهرة فبايعوا.
6 ـ دخول عناصر من خارج المدينة معدّةً سلفاً لتأييد الطرف المناوئ لبني هاشم، بدليل قول عمر: ما هو إلاّ أن رأيت «أسلم» فأيقنتُ بالنصر[5].
7 ـ محاولتهم التعتيم على الإجراءات التي تمّت مخاتلةً، واتهامهم لكلّ مَن يعارضهم بأنّه يريد الفتنة وشقّ عصا المسلمين، وقد اتّضح ذلك من خلال الحوادث التي تتابعت فيما بعدُ، والقضاء على من ثبت على عدم البيعة وخالف قرار السقيفة[6].
8 ـ ومن الأدلّة على التخطيط السابق: أنّ عثمان بن عفّان كتب اسم عمر في الوصية كخليفة من بعد أبي بكر[7] من دون أن يأمره بذلك، فقد كان مغمىً عليه، فمن أين علم عثمان أنّ عمر هو الخليفة بعد أبي بكر ؟
9 ـ ثمّ إنّ عمر وضع عثمان ضمن مجموعة أحدها يكون خليفة المسلمين بحيث يضمن ترشيحه مؤكّداً، وأيّ خبير بالتأريخ مُلمّ بمجريات الاُمور وتركيبة المرشّحين الستّة يستطيع أن يحلّل ذلك كما حلل الإمام عليّ (عليه السلام) الموقف بوضوح[8].
10 ـ حين تشكّلت الحكومة التي تمخّضت عن اجتماع السقيفة; تولّى أبو بكر الخلافة، وأبو عبيدة المال، وعمر القضاء[9]، وهذه هي أهمّ المناصب وأكثرها حساسيةً في مناهج الحكم والدولة، هذه التركيبة لجهاز الدولة والعناصر الحاكمة لا تتأتّى صدفةً ولا يتمّ ذلك إلاّ عن تخطيط سابق .
11 ـ قول عمر حين حضرته الوفاة: لو كان أبو عبيدة حيّاً استخلفته[10]. وليست كفاءة أبي عبيدة هي التي أوحت إلى عمر بهذا التمنّي، لأنّه كان يعتقد أهليّة عليّ (عليه السلام) للخلافة، ومع ذلك لم يشأ أن يتحمّل أمر الاُمّة حيّاً كان أو ميّتاً.
12 ـ اتّهام معاوية لأبي بكر وعمر بالتخطيط لاستلاب الخلافة من عليّ (عليه السلام)، كما جاء ذلك في كتابه الى محمّد بن أبي بكر إذ قال: فقد كنّا وأبوك نعرف فضل ابن أبي طالب وحقّه لازماً لنا مبروراً علينا، فلمّا اختار الله لنبيّه (صلى الله عليه وآله) ما عنده وأتمّ وعده وأظهر دعوته وأفلج حجّته وقبضه إليه; كان أبوك والفاروق أوّل من ابتزّه حقّه وخالفه على أمره، على ذلك اتّفقا واتّسقا، ثمّ إنّهما دعواه الى بيعتهما فأبطأ عنهما وتلكّأ عليهما فهمّا به الهموم وأرادا به العظيم[11].
13 ـ قول أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) لعمر: احلب يا عمر حلباً لك شطره، اشدد له اليوم أمره ليرد عليك غداً[12].
14 ـ إتّهام الزهراء (عليها السلام) للحاكمين بالحزبيّة السياسية والتآمر للانقضاض على السلطة وتجريد بني هاشم منها[13] بقولها:
«فوسمتم غير إبلكم، وأوردتم غير شربكم... ابتداراً زعمتم خوف الفتنة؟ (ألا في الفتنة سقطوا وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين) ».
حين انطلقت الرسالة الإسلامية في مكّة وبين ظهراني قريش; لم تتمكّن قريش من تحمّل ظهور نبيّ في بطن من خيار بطونها، بل أفضلها وهي بنو هاشم، فاجتمعت كلمة قريش على محاربة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وبني هاشم بكلّ وسائل الحرب ومقاومتهم بشتّى فنون المقاومة وخطّطت للتآمر لا حُـبّاً بالأصنام وما هم عليه من العبادة ولا كراهية للدعوة الجديدة، فليس في الإسلام ما لا ترتضيه الفطرة السليمة[1]، لكن قريشاً لا تريد أن تغيّر صيغتها السياسية القائمة على اقتسام مناصب الشرف والسيادة، وخصوصاً أنّ مجتمع الجزيرة كانت تحكمه النزعة القبلية.
من هنا لم تكن قريش تريد أن يتميّز البطن الهاشمي عن بقيّة بطونها ولا أن يتفوّق عليها، وقد تصوّرت أنّ التفاف الهاشميّين حول النبوّة ودفاعهم المستميت عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) هو إصرار هاشمي على التميّز والرغبة بالتفوّق على الجميع، فحاصرت قريش الهاشميّين في شِعب أبي طالب، وتآمرت على قتل النبيّ، وفشل الحصار وفشلت كلّ محاولات الاغتيال لشخص النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وعلا طوفان الرسالة الإسلامية على كلّ القوى المناوئة، وأسلمت قريش طوعاً أو كرهاً، فلم تعد لقريش قدرة على الوقوف في وجه النبوّة.
ولكنّ إعداد النبيّ (صلى الله عليه وآله) العدّة لتكون الخلافة من بعده لعليّ ولذرّيّته (عليهم السلام) بأمر من الله تعالى وباعتبارهم. أجدر وأعلم باُصول الشريعة وأحكامها، وأنّهم الأفضل من كلّ أتباعه، والأنسب لقيادة الاُ مّة، قد أثار هذا المنطق في نفوس قريش النزعة القبلية والحقد الجاهلي فعزمت أن لا تجمع النبوّة والخلافة في بني هاشم، فالنبوّة والخلافة في عرف قريش سلطان وحكم كما صرّح بذلك أبو سفيان يوم فتح مكّة بقوله للعباس: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً[2].
هذه الفكرة والعقلية سادت في الأجواء السياسية المحمومة في آخر أ يّام النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وقريش مدركة أنّ النبيّ ميّت لا محالة في مرضه هذا، وقد أخبرهم (صلى الله عليه وآله) بذلك، وأيضاً لو تركت الاُمور على مجراها الطبيعي فالخلافة ستؤول الى عليّ (عليه السلام) حتماً. من هنا كان تحرّك الحزب المناوئ لبني هاشم بصورة عامّة ولعليّ (عليه السلام) خاصّة، فكانت السقيفة.
ونجد فكرة عدم اجتماع النبوّة والخلافة في بني هاشم من خلال المحاورة بين عمر وابن عباس في زمن خلافة عمر، حين قال له عمر: يا ابن عباس! أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمّد (صلى الله عليه وآله)؟ قال ابن عباس: فكرهت أن اُجيبه فقلت: إن لم أكن أدري فإنّ أمير المؤمنين يدري، فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوّة والخلافة فتجحفوا على قومكم، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت[3].
وثمّة أمر آخر يتعلّق بموضوع تحويل الخلافة عن عليّ (عليه السلام) وهو أنّ عليّاً (عليه السلام) قد وتر قريشاً في حروبها ضد الإسلام وإنّ كلّ دم أراقه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بسيف عليّ (عليه السلام) وسيف غيره فإنّ العرب بعد وفاته (صلى الله عليه وآله) عصبت تلك الدماء بعليّ وحده، لأنّه لم يكن في رهط النبيّ مَن يستحق في شرع قريش وعاداتهم أن يعصب به تلك الدماء إلاّ عليّ وحده[4].
ملامح التخطيط لإقصاء الإمام عليّ (عليه السلام) عن الخلافة :
نلاحظ أنّ هناك تخطيطاً محكماً لدى الخطّ المناوئ لعليّ (عليه السلام) لأخذ الخلافة منه من خلال ما يلي :
1 ـ بقاؤهم في المدينة ومحاولتهم عدم الخروج منها مهما يكن من أمر، وذلك عندما عرفوا أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قد تدهورت صحّته، كما لاحظوا بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) في تلك الأيام كان يكثر من التوصية بعليّ (عليه السلام) وضرورة اتّباعه لسلامة الدين والدولة.
2 ـ حضورهم الدائم قرب الرسول ومحاولتهم الحيلولة دون حصول شيء يدعم ولاية عليّ (عليه السلام)، فكان الشغب في مجلس النبيّ (صلى الله عليه وآله) تحت الشعار الذي رفعه عمر : «حسبنا كتاب الله» ثمّ اتهام النبيّ المعصوم (صلى الله عليه وآله) بغلبة الوجع ممّا أزعج النبيّ، حيث إ نّ قول النبيّ (صلى الله عليه وآله): «إئتوني : بدواة وكتف» من غير المعقول أن يثير النفور والشكّ في نفوس الجميع دون سابق مضمر في نفوس البعض، فلم يكن داع لاِعتراضهم إلاّ إثارة الشغب ومنع النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن الكتابة.
3 ـ السرعة في البتّ بموضوع الخلافة وإتمام البيعة عبر استغلالهم الفرصة بانشغال الإمام عليّ (عليه السلام) وبني هاشم بمراسم تجهيز النبيّ ودفنه، فحين علم عمر بنبأ الاجتماع في السقيفة; أرسل الى أبي بكر حين دخل الى بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن اُخرج فقد حدث أمر لابدّ أن تحضره، ولم يوضّح ذلك خشية أن يطّلع عليه عليّ أو أحد من بني هاشم، وإلاّ لماذا؟ فهل كان هذا الأمر المهمّ يعني أبا بكر دون بقيّة المسلمين وفيهم من هو أحرص على الإسلام من أبي بكر وعمر؟ ولماذا لم يدخل عمر بنفسه الى داخل دار النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيث يجتمع الناس فيتحدّث اليهم ؟
4 ـ سعيهم لضمان حياد الأنصار وإبعادهم عن ميدان التنافس السياسي بدعوى أنّهم ليسوا عشيرة النبيّ (صلى الله عليه وآله).
5 ـ الترتيب في أخذ البيعة أوّلاً من الأنصار، لأنّ قريشاً لو بايعت الخليفة الجديد; لما كان لبيعتها أدنى قيمة واقعية، ولأمكن الإمام فيما بعد أن يقيم الحجّة على قريش، ولا يمكن لأيّ فرد أن يقف في موقع الندّ لعليّ (عليه السلام) إذا كانت الأنصار في كفّة الإمام.
ويمكن ملاحظة ذلك من طريقة أخذ البيعة بعد الخروج من السقيفة، إذ كان الناس مجتمعين في المسجد فقال عمر: ما لي أراكم مجتمعين حلقاً شتّى ؟ ! قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايعته الأنصار، فقام عثمان ومن معه من بني اُميّة فبايعوا، وقام سعد وعبدالرحمن ومعهما بنو زهرة فبايعوا.
6 ـ دخول عناصر من خارج المدينة معدّةً سلفاً لتأييد الطرف المناوئ لبني هاشم، بدليل قول عمر: ما هو إلاّ أن رأيت «أسلم» فأيقنتُ بالنصر[5].
7 ـ محاولتهم التعتيم على الإجراءات التي تمّت مخاتلةً، واتهامهم لكلّ مَن يعارضهم بأنّه يريد الفتنة وشقّ عصا المسلمين، وقد اتّضح ذلك من خلال الحوادث التي تتابعت فيما بعدُ، والقضاء على من ثبت على عدم البيعة وخالف قرار السقيفة[6].
8 ـ ومن الأدلّة على التخطيط السابق: أنّ عثمان بن عفّان كتب اسم عمر في الوصية كخليفة من بعد أبي بكر[7] من دون أن يأمره بذلك، فقد كان مغمىً عليه، فمن أين علم عثمان أنّ عمر هو الخليفة بعد أبي بكر ؟
9 ـ ثمّ إنّ عمر وضع عثمان ضمن مجموعة أحدها يكون خليفة المسلمين بحيث يضمن ترشيحه مؤكّداً، وأيّ خبير بالتأريخ مُلمّ بمجريات الاُمور وتركيبة المرشّحين الستّة يستطيع أن يحلّل ذلك كما حلل الإمام عليّ (عليه السلام) الموقف بوضوح[8].
10 ـ حين تشكّلت الحكومة التي تمخّضت عن اجتماع السقيفة; تولّى أبو بكر الخلافة، وأبو عبيدة المال، وعمر القضاء[9]، وهذه هي أهمّ المناصب وأكثرها حساسيةً في مناهج الحكم والدولة، هذه التركيبة لجهاز الدولة والعناصر الحاكمة لا تتأتّى صدفةً ولا يتمّ ذلك إلاّ عن تخطيط سابق .
11 ـ قول عمر حين حضرته الوفاة: لو كان أبو عبيدة حيّاً استخلفته[10]. وليست كفاءة أبي عبيدة هي التي أوحت إلى عمر بهذا التمنّي، لأنّه كان يعتقد أهليّة عليّ (عليه السلام) للخلافة، ومع ذلك لم يشأ أن يتحمّل أمر الاُمّة حيّاً كان أو ميّتاً.
12 ـ اتّهام معاوية لأبي بكر وعمر بالتخطيط لاستلاب الخلافة من عليّ (عليه السلام)، كما جاء ذلك في كتابه الى محمّد بن أبي بكر إذ قال: فقد كنّا وأبوك نعرف فضل ابن أبي طالب وحقّه لازماً لنا مبروراً علينا، فلمّا اختار الله لنبيّه (صلى الله عليه وآله) ما عنده وأتمّ وعده وأظهر دعوته وأفلج حجّته وقبضه إليه; كان أبوك والفاروق أوّل من ابتزّه حقّه وخالفه على أمره، على ذلك اتّفقا واتّسقا، ثمّ إنّهما دعواه الى بيعتهما فأبطأ عنهما وتلكّأ عليهما فهمّا به الهموم وأرادا به العظيم[11].
13 ـ قول أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) لعمر: احلب يا عمر حلباً لك شطره، اشدد له اليوم أمره ليرد عليك غداً[12].
14 ـ إتّهام الزهراء (عليها السلام) للحاكمين بالحزبيّة السياسية والتآمر للانقضاض على السلطة وتجريد بني هاشم منها[13] بقولها:
«فوسمتم غير إبلكم، وأوردتم غير شربكم... ابتداراً زعمتم خوف الفتنة؟ (ألا في الفتنة سقطوا وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين) ».
خادم الحسين- مشترك مجتهد
- عدد الرسائل : 125
نقاط : 0
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 13/05/2008
السقيفة
سلبيّات حادثة السقيفة :
1 ـ الاستبداد بالرأي والقرار، فقد استهان المشاركون في السقيفة بوصايا رسول الله (صلى الله عليه وآله) للمسلمين بالاهتمام بعترته الطاهرة، واستخفّوا بأوامره المصرّحة بلزوم الاقتداء بهم والتمسّك بحبلهم، ولو فرض ـ جدلاً ـ أنّه لا نصّ بالخلافة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أحد من آل محمد وفرض كونهم غير متميّزين في حسب أو نسب أو أخلاق أو جهاد أو علم أوعمل أو إيمان أو إخلاص، بل كانوا كسائر الصحابة، فهل كان ثمّة مانع شرعيّ أو عقليّ أو عرفيّ يمنع تأجيل عقد البيعة إلى حين الانتهاء من تجهيز رسول الله (صلى الله عليه وآله)[14] ؟ !
إن هذا الاستعجال من المبادرين لسدّ الفراغ الذي خلّفته وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على وجود نصوص أو أرضية تشريعية كان ينبغي تفويتها والمبادرة لأخذ زمام الأمر، لئلاّ تأخذ النصوص فاعليتها إن جرت الاُمور بشكل طبيعي، ولهذا قال عمر عن بيعة أبي بكر: إنّها كانت فلتة وقى الله المسلمين شرّها ألا ومن عاد لمثلها فاقتلوه[15].
2 ـ البيعة لم تكن جامعة لأهل الحلّ والعقد الذي يعتبر شرطاً أساسياً في حصول الإجماع وفي مشروعية الانتخاب، إذ اُلغي في السقيفة استشارة الطبقة الرفيعة من الصحابة مثل عليّ (عليه السلام) والعباس وعمار بن ياسر وسلمان وخزيمة بن ثابت وأبي ذر وأبي أيوب الأنصاري والزبير بن العوام وطلحة واُبي بن كعب، وغيرهم كثير.
3 ـ استعمال العنف والقسوة في طريقة أخذ البيعة من المسلمين، فإنّ كثيراً من المسلمين قد اُرغموا عليها، وقد لعبت دِرَّة عمر في سبيل تحقيقها وإيجادها دوراً كبيراً.
4 ـ لقّنت السقيفة مفاهيم منحرفة للاُمّة، منها:
أ ـ الاستعلاء على الاُمّة والاستخفاف بشأنها تحت شعار «مَن ذا ينازعنا سلطان محمّد ؟ !».
ب ـ تحويل مفهوم النبوّة الرّبانية وخلافة الرسول (صلى الله عليه وآله) الى مفهوم السلطة العشائرية التي تستمد قوّتها وشرعيتها من انتخاب أبناء العشيرة وليس من نصوص الشريعة المقدّسة.
ج ـ فسح المجال أمام المسلمين لطرح التعددية في السلطة ومنافسة مَن فرض الله طاعته بالنصّ، وتشجيع التمرّد على الحاكم المعصوم المنصوب بأمر من الله تعالى ، كما قالوا: منّا أمير ومنكم أمير.
د ـ هيّأ اجتماع السقيفة الأرضيّة المناسبة لتجاوز وجود الاُمّة وتجاوز رأيها السياسي كما حصل ذلك مرة اُخرى عند تعيين عمر ، وثالثة عند وفاة عمر متمثلاً في الشورى التي فرضها عمر على المسلمين .
موقف الإمام (عليه السلام) من اجتماع السقيفة :
لم يكن الإمام عليّ (عليه السلام) طامعاً وساعياً في استلام الخلافة والتربّع على عرشها مثل الآخرين، إذ كان همّه الأوّل والأخير تثبيت دعائم الإسلام ونشره، وإعزاز الدين وأهله، وإظهار عظمة الرسول وبيان سيرته، وحثّ الناس على الاقتداء بمنهجه (صلى الله عليه وآله)، فانشغل بمراسم تجهيز النبيّ والصلاة عليه ودفنه، وما كان يدور في خَلَده أنّ الخلافة تعدوه وهو المؤهّل لها رسالياً والمرشّح لها نبوّياً، ولكنّ نفوس القوم أضمرت ما ينافي وصايا نبيّهم في غزوتي اُحد وحنين، وأغراهم الطمع في سلطان بغير حقّ، فتركوا نبيّهم مطروحاً بلا دفن كما تركوه وفرّوا عنه في حياته عند الشدائد والهزائز.
لقد وصل خبر اجتماع السقيفة إلى بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيث يجتمع عليّ (عليه السلام) وبنو هاشم والمخلصون من الصحابة حول جسد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال العباس عمّ الرسول لعليّ: يا ابن أخي، اُمدد يدك اُبايعك، فيقال: عمّ رسول الله بايع ابن عمّ رسول الله، فلا يختلف عليك اثنان.
فقال (عليه السلام): يا عمّ، وهل يطمع فيها طامع غيري؟
قال العباس: ستعلم.
غير أنّ الإمام (عليه السلام) لم يكن ليخفى عليه ما كان يجري في الساحة من مؤامرات آنذاك فأجابه بصريح القول: «إنّي لا اُحبّ هذا الأمر من وراء رِتاج»[16].
موقف أبي سفيان :
روي: أنّ أبا سفيان جاء الى باب دار رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعليّ (عليه السلام) والعباس موجودان فيه، فقال: ما بال هذا الأمر في أقلّ حيّ من قريش؟! والله لئن شئت لأملأنّها عليهم خيلاً ورجالاً، فقال عليّ (عليه السلام): ارجع يا أبا سفيان طالما عاديت الإسلام وأهله فلم تضرّه بذاك شيئاً.
وروي أيضاً: أنّه لمّا اجتمع الناس على بيعة أبي بكر; أقبل أبو سفيان وهو يقول: والله إنّي لأرى عجاجةً لا يطفئها إلاّ دم، يا آل عبدمناف فيم أبو بكر من اُموركم! أين المستضعفان عليّ والعباس، وقال: أبا حسن، ابسط يدك اُبايعك، فأبى عليّ (عليه السلام) عليه وزجره وقال: إنّك والله ما أردت بهذا إلاّ الفتنة، وإنّك طالما بغيت الإسلام شرّاً، لا حاجة لنا في نصيحتك[17]. ولمّا بويع أبو بكر قال أبو سفيان: ما لنا ولأبي فصيل، إنما هي بنو عبد مناف !
فقيل له: إنّه قد ولّى ابنك، قال: وصلته رحم[18].
لم تكن معارضة أبي سفيان للسقيفة عن إيمانه بحقّ الإمام عليّ (عليه السلام) وبني هاشم، وإنّما كانت حركة سياسية ظاهرية أراد بها الكيد بالإسلام والبغي عليه، فإنّ علاقة أبي بكر مع أبي سفيان كانت وثيقة للغاية[19].
أقطاب المعارضة للسقيفة :
كان من الطبيعي أن تبرز أطراف معارضة لنتائج السقيفة التي لم تتمتّع بالأهليّة الكافية والأحقيّة في الزعامة، فبرزت ثلاثة أطراف:
الأوّل : الأنصار باعتبارهم كتلة سياسية واجتماعية كبيرة لابدّ من حسابها في ميزان الترشيح والانتخاب، فنازعوا الخليفة الفائز وصاحبيه في سقيفة بني ساعدة، ووقعت بينهم المنازعة التي انتهت بفوز قريش.
وقد انتفع أبو بكر وحزبه في مواجهة الأنصار من:
1 ـ تركّز فكرة الوراثة الدينية في الذهنية العربية في قوله بأنّهم شجرة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأقربهم إليه، فهم أولى به من سائر المسلمين، وأحق بخلافته وسلطانه.
2 ـ انشقاق الأنصار على أنفسهم بين مؤيّد ومعارض لأبي بكر، نتيجة تجذّر النزعة القبلية من نفوسهم، أو لحسد بعضهم لبعض، أو الرغبة في نيل الحظوة والقُربة لدى السلطة الحاكمة الجديدة، حتى برزت هذه الظاهرة واضحة في قول اُسيد بن حضير في السقيفة:
لئن ولّيتموها سعداً عليكم مرة واحدة لا زالت لهم بذلك عليكم الفضيلة ولا جعلوا لكم نصيباً فيها أبداً فقوموا فبايعوا أبا بكر[20].
لقد أعطى اجتماع السقيفة لأبي بكر القوّة من ناحيتين:
1 ـ إضعاف دور القاعدة الشعبية للإمام عليّ (عليه السلام) فإنّ الأنصار سجّلوا على أنفسهم بذلك مذهباً لا يسمح لهم بأن يقفوا بعد السقيفة إلى صفّ الإمام ويخدموا قضيته وأحقّيته في الخلافة.
2 ـ بروز أبي بكر كمدافع وحيد عن حقوق المهاجرين بصورة عامّة وعن قريش خاصّة في مجتمع الأنصار، حيث إنّ الظرف كان مناسباً جدّاً، إذ خلا من أقطاب المهاجرين الذين لم يكن لتنتهي المسألة في محضرهم إلى نتيجتها التي انتهت إليها.
الثاني: الاُمويّون الذين كان لديهم مطمع سياسيّ كبير في نيل نصيب مرموق من الحكم، واسترجاع شيء من مجدهم السياسي في الجاهلية وعلى رأسهم أبو سفيان، وقد تعامل معهم أبو بكر وحزبه وفق معرفتهم بطبيعة النفس الاُموية وشهواتها السياسيّة والمادية، فكان من السهل على أبي بكر أن يتنازل عن بعض المبادئ والحقوق الشرعية، فدفع لأبي سفيان جميع ما في يده من أموال المسلمين وزكواتهم التي جمعها من سفره الذي بعثه فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) لجباية الأموال، ولم يعبأ الفائزون بالسقيفة بمعارضة الاُمويين وتهديد أبي سفيان وما أعلنه من كلمات الثورة والرغبة في تأييد الإمام (عليه السلام) وبني هاشم.
بل استفاد أبو بكر وحزبه من الاُمويّين في إضعاف دور بني هاشم حاضراً ومستقبلاً بأن جعلوا للاُمويّين حظّـاً في العمل الحكومي في عدّة من المرافق الهامّة في الدولة.
الثالث: الهاشميّون وأخصّاؤهم كعمار وسلمان وأبي ذر والمقداد رضوان الله عليهم، وجماعات كثيرة من الناس الذين كانوا يرون البيت الهاشمي هو صاحب الحقّ الشرعي بالخلافة، وهو الوارث الطبيعي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بحكم نصّ الغدير ومناهج السياسة التي كانوا يألفونها.
ولم تكن لتنطلي عليهم الحجج الواهية التي طرحتها أطراف السقيفة، فرأت فيهم تيارات تسعى للإستئثار بالحكم لإرضاء شهواتهم ونذيراً بانحراف التجربة الإسلامية من مسارها الصحيح.
نتائج السقيفة :
نجح أبو بكر وحزبه في مواجهة الأنصار والاُمويين، وكسب الموقف بأن أصبح خليفة للمسلمين، ولكنّ هذا النجاح جرّه إلى تناقض سياسي واضح، لأنّه لم يملك في السقيفة من رصيد إلاّ أن يجعلوا حجّتهم مبنيّة على أساس القرابة من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومن ثَمّ يقرّوا مذهب الوراثة للزعامة الدينية.
غير أنّ وجود بني هاشم كطرف معارض بدّل الوضع السياسي، واحتجّت المعارضة على أبي بكر وحزبه بنفس حجّتهم على باقي الأطراف، وهي إذا كانت قريش أولى برسول الله من سائر العرب فبنو هاشم أحقّ بالأمر من بقية قريش.
وهذا ما أعلنه الإمام عليّ (عليه السلام) حين قال: إذا احتجّ المهاجرون بالقُرب من رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانت الحجّة لنا على المهاجرين بذلك قائمة، فإن فلجت حجّتهم كانت لنا دونهم، وإلاّ فالأنصار على دعوتهم.
وأوضحه العباس في حديث له مع أبي بكر إذ قال له: وأمّا قولك نحن شجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإنكم جيرانها ونحن أغصانها[21].
فالإمام عليّ (عليه السلام) كان مصدر رعب ورهب في نفوس الفائزين في لعبة السقيفة وسدّاً منيعاً ازاء رغباتهم وطموحاتهم، وكان بإمكانه أن يستغلّ النفعيّين ـ وما أكثرهم! ـ والذين يميلون مع كلّ ريح وينعقون مع كلّ ناعق والذين يعرضون أصواتهم ومواقفهم رخيصة في الأسواق السياسية، وأن يشبع نهمهم ممّا خلّفه الرسول (صلى الله عليه وآله) من الخمس وغلاّت أراضي المدينة ونتاج «فدك» التي كانت تدرّ بالخيرات، إلاّ أنّه (عليه السلام) أبى عن كلّ ذلك لكمال شخصيّته وسموّ منزلته، هذا من جانب، ومن جانب آخر كان بوسعه (عليه السلام) أن يتحرّك محتجّاً أمام أرباب السقيفة بمبدأ القرابة الذي يعدّ ورقة رابحة بيده حتى ألمح لذلك بقوله (عليه السلام): «احتجوّا بالشجرة وأضاعوا الثمرة». وكان السواد الأعظم من الناس يقدّسون أهل البيت ويحترمونهم لذلك السبب، وبالتالي سيدفع السلطة الحاكمة الى أزمة سياسية حرجة لا مخرج منها، بيد أنّه (عليه السلام) كان أسمى من ذلك وأجلّ، حيث قدّم (عليه السلام) المصلحة الإسلامية العليا على كلّ المصالح الخاصة .
ولتلافي احتمال تحرّك الإمام على هذا المسار تردّدت السلطة بين موقفين:
أوّلاً: أن لا تقرّ للقرابة بشأن في الخلافة، وهذا معناه نزع الثوب الشرعي عن خلافة أبي بكر الذي تقمّصه يوم السقيفة.
ثانياً: أن تناقض السلطة الحاكمة نفسها وإصرارها على مبادئها التي أعلنتها في السقيفة مقابل بقيّة الأطراف، فلا ترى أيّ حق للهاشميّين في السلطة وهم أقرب الناس إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)، أو تراه لهم، ولكن في غير ذلك الظرف الذي يكون معنى المعارضة مقابلة حكم قائم ووضع قد تعاقد عليه الناس.
وكان الخيار الثاني هو خيار السلطة[22].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] يروى أنّ كثيراً من زعماء قريش كانوا يجاهرون بالعداء للدين ولكنّهم يذهبون خلسةً لاستماع القرآن.
[2] شرح نهج البلاغة : 17 / 272 .
[3] مروج الذهب: 2 / 253، وشرح النهج لابن أبي الحديد: 1 / 189 ط دار احياء التراث العربي، الكامل في التأريخ: 3 / 63 و 64 .
[4] نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 3 / 283.
[5] تأريخ الطبري: 2 / 459 ط مؤسسة الأعلمي.
[6] راجع طبقات ابن سعد : 3 / ق 2 / 145، وأنساب الأشراف : 1 / 589 ، والعقد الفريد : 4 / 247، السقيفة والخلافة لعبدالفتاح عبدالمقصود : 13، والسقيفة انقلاب أبيض : اغتيال خالد بن سعيد بن العاص، وابن عساكر : ترجمة سعد بن عبادة وكنز العمّال : 3 / 134.
[7] تأريخ الطبري: 2 / 618 ط مؤسسة الأعلمي، وسيرة عمر لابن الجوزي: 37، والكامل في التأريخ: 2 / 425.
[8] أنساب الاشراف : 5 / 19 .
[9] الكامل في التأريخ: 2 / 420.
[10] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1 / 190 ط دار إحياء التراث العربي، وتأريخ الطبري: 3 / 292 قصة الشورى، والكامل في التأريخ: 3 / 65.
[11] مروج الذهب للمسعودي: 3 / 199، وقعة صفّين لنصر بن مزاحم: 119.
[12] الإمامة والسياسة: 29، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 6 / 11.
[13] راجع خطبة الزهراء في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله)، وبحار الأنوار: 29 / 220.
[14] النص والاجتهاد للسيد شرف الدين: 25 ط اُسوة.
[15] تذكرة الخواص: 61، وراجع صحيح البخاري: كتاب الحدود، باب رجم الحُبلى.
[16] الإمامة والسياسة: 21. والرِتاج: الباب المغلق.
[17] تاريخ الطبري: 2 / 449، والكامل في التاريخ: 2 / 326 ط دار الفكر.
[18] تأريخ الطبري: 2 / 449 ط دار الأعلمي، والكامل في التأريخ: 2 / 326.
[19] فقد روي أنّ أبا سفيان اجتاز على جماعة من المسلمين منهم أبو بكر وسلمان وصهيب وبلال، فقال بعضهم: أما أخذت سيوف الله من عنق عدّو الله مأخذها؟
فزجرهم أبو بكر وقال لهم: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيّدهم؟.. ومضى مسرعاً إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) يخبره بمقالة القوم فردّ عليه الرسول (صلى الله عليه وآله) قائلاً: يا أبا بكر لعلك أغضبتهم؟ لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت الله. صحيح البخاري: 2 / 362.
[20] الكامل في التأريخ: 2 / 331.
[21] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 6 / 5.
[22] راجع تفصيل ذلك في «فدك في التأريخ» للشهيد الصدر: 84 ـ 96، وتأريخ الطبري: 2 / 449 و 450 (أحداث السقيفة
1 ـ الاستبداد بالرأي والقرار، فقد استهان المشاركون في السقيفة بوصايا رسول الله (صلى الله عليه وآله) للمسلمين بالاهتمام بعترته الطاهرة، واستخفّوا بأوامره المصرّحة بلزوم الاقتداء بهم والتمسّك بحبلهم، ولو فرض ـ جدلاً ـ أنّه لا نصّ بالخلافة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أحد من آل محمد وفرض كونهم غير متميّزين في حسب أو نسب أو أخلاق أو جهاد أو علم أوعمل أو إيمان أو إخلاص، بل كانوا كسائر الصحابة، فهل كان ثمّة مانع شرعيّ أو عقليّ أو عرفيّ يمنع تأجيل عقد البيعة إلى حين الانتهاء من تجهيز رسول الله (صلى الله عليه وآله)[14] ؟ !
إن هذا الاستعجال من المبادرين لسدّ الفراغ الذي خلّفته وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على وجود نصوص أو أرضية تشريعية كان ينبغي تفويتها والمبادرة لأخذ زمام الأمر، لئلاّ تأخذ النصوص فاعليتها إن جرت الاُمور بشكل طبيعي، ولهذا قال عمر عن بيعة أبي بكر: إنّها كانت فلتة وقى الله المسلمين شرّها ألا ومن عاد لمثلها فاقتلوه[15].
2 ـ البيعة لم تكن جامعة لأهل الحلّ والعقد الذي يعتبر شرطاً أساسياً في حصول الإجماع وفي مشروعية الانتخاب، إذ اُلغي في السقيفة استشارة الطبقة الرفيعة من الصحابة مثل عليّ (عليه السلام) والعباس وعمار بن ياسر وسلمان وخزيمة بن ثابت وأبي ذر وأبي أيوب الأنصاري والزبير بن العوام وطلحة واُبي بن كعب، وغيرهم كثير.
3 ـ استعمال العنف والقسوة في طريقة أخذ البيعة من المسلمين، فإنّ كثيراً من المسلمين قد اُرغموا عليها، وقد لعبت دِرَّة عمر في سبيل تحقيقها وإيجادها دوراً كبيراً.
4 ـ لقّنت السقيفة مفاهيم منحرفة للاُمّة، منها:
أ ـ الاستعلاء على الاُمّة والاستخفاف بشأنها تحت شعار «مَن ذا ينازعنا سلطان محمّد ؟ !».
ب ـ تحويل مفهوم النبوّة الرّبانية وخلافة الرسول (صلى الله عليه وآله) الى مفهوم السلطة العشائرية التي تستمد قوّتها وشرعيتها من انتخاب أبناء العشيرة وليس من نصوص الشريعة المقدّسة.
ج ـ فسح المجال أمام المسلمين لطرح التعددية في السلطة ومنافسة مَن فرض الله طاعته بالنصّ، وتشجيع التمرّد على الحاكم المعصوم المنصوب بأمر من الله تعالى ، كما قالوا: منّا أمير ومنكم أمير.
د ـ هيّأ اجتماع السقيفة الأرضيّة المناسبة لتجاوز وجود الاُمّة وتجاوز رأيها السياسي كما حصل ذلك مرة اُخرى عند تعيين عمر ، وثالثة عند وفاة عمر متمثلاً في الشورى التي فرضها عمر على المسلمين .
موقف الإمام (عليه السلام) من اجتماع السقيفة :
لم يكن الإمام عليّ (عليه السلام) طامعاً وساعياً في استلام الخلافة والتربّع على عرشها مثل الآخرين، إذ كان همّه الأوّل والأخير تثبيت دعائم الإسلام ونشره، وإعزاز الدين وأهله، وإظهار عظمة الرسول وبيان سيرته، وحثّ الناس على الاقتداء بمنهجه (صلى الله عليه وآله)، فانشغل بمراسم تجهيز النبيّ والصلاة عليه ودفنه، وما كان يدور في خَلَده أنّ الخلافة تعدوه وهو المؤهّل لها رسالياً والمرشّح لها نبوّياً، ولكنّ نفوس القوم أضمرت ما ينافي وصايا نبيّهم في غزوتي اُحد وحنين، وأغراهم الطمع في سلطان بغير حقّ، فتركوا نبيّهم مطروحاً بلا دفن كما تركوه وفرّوا عنه في حياته عند الشدائد والهزائز.
لقد وصل خبر اجتماع السقيفة إلى بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيث يجتمع عليّ (عليه السلام) وبنو هاشم والمخلصون من الصحابة حول جسد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال العباس عمّ الرسول لعليّ: يا ابن أخي، اُمدد يدك اُبايعك، فيقال: عمّ رسول الله بايع ابن عمّ رسول الله، فلا يختلف عليك اثنان.
فقال (عليه السلام): يا عمّ، وهل يطمع فيها طامع غيري؟
قال العباس: ستعلم.
غير أنّ الإمام (عليه السلام) لم يكن ليخفى عليه ما كان يجري في الساحة من مؤامرات آنذاك فأجابه بصريح القول: «إنّي لا اُحبّ هذا الأمر من وراء رِتاج»[16].
موقف أبي سفيان :
روي: أنّ أبا سفيان جاء الى باب دار رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعليّ (عليه السلام) والعباس موجودان فيه، فقال: ما بال هذا الأمر في أقلّ حيّ من قريش؟! والله لئن شئت لأملأنّها عليهم خيلاً ورجالاً، فقال عليّ (عليه السلام): ارجع يا أبا سفيان طالما عاديت الإسلام وأهله فلم تضرّه بذاك شيئاً.
وروي أيضاً: أنّه لمّا اجتمع الناس على بيعة أبي بكر; أقبل أبو سفيان وهو يقول: والله إنّي لأرى عجاجةً لا يطفئها إلاّ دم، يا آل عبدمناف فيم أبو بكر من اُموركم! أين المستضعفان عليّ والعباس، وقال: أبا حسن، ابسط يدك اُبايعك، فأبى عليّ (عليه السلام) عليه وزجره وقال: إنّك والله ما أردت بهذا إلاّ الفتنة، وإنّك طالما بغيت الإسلام شرّاً، لا حاجة لنا في نصيحتك[17]. ولمّا بويع أبو بكر قال أبو سفيان: ما لنا ولأبي فصيل، إنما هي بنو عبد مناف !
فقيل له: إنّه قد ولّى ابنك، قال: وصلته رحم[18].
لم تكن معارضة أبي سفيان للسقيفة عن إيمانه بحقّ الإمام عليّ (عليه السلام) وبني هاشم، وإنّما كانت حركة سياسية ظاهرية أراد بها الكيد بالإسلام والبغي عليه، فإنّ علاقة أبي بكر مع أبي سفيان كانت وثيقة للغاية[19].
أقطاب المعارضة للسقيفة :
كان من الطبيعي أن تبرز أطراف معارضة لنتائج السقيفة التي لم تتمتّع بالأهليّة الكافية والأحقيّة في الزعامة، فبرزت ثلاثة أطراف:
الأوّل : الأنصار باعتبارهم كتلة سياسية واجتماعية كبيرة لابدّ من حسابها في ميزان الترشيح والانتخاب، فنازعوا الخليفة الفائز وصاحبيه في سقيفة بني ساعدة، ووقعت بينهم المنازعة التي انتهت بفوز قريش.
وقد انتفع أبو بكر وحزبه في مواجهة الأنصار من:
1 ـ تركّز فكرة الوراثة الدينية في الذهنية العربية في قوله بأنّهم شجرة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأقربهم إليه، فهم أولى به من سائر المسلمين، وأحق بخلافته وسلطانه.
2 ـ انشقاق الأنصار على أنفسهم بين مؤيّد ومعارض لأبي بكر، نتيجة تجذّر النزعة القبلية من نفوسهم، أو لحسد بعضهم لبعض، أو الرغبة في نيل الحظوة والقُربة لدى السلطة الحاكمة الجديدة، حتى برزت هذه الظاهرة واضحة في قول اُسيد بن حضير في السقيفة:
لئن ولّيتموها سعداً عليكم مرة واحدة لا زالت لهم بذلك عليكم الفضيلة ولا جعلوا لكم نصيباً فيها أبداً فقوموا فبايعوا أبا بكر[20].
لقد أعطى اجتماع السقيفة لأبي بكر القوّة من ناحيتين:
1 ـ إضعاف دور القاعدة الشعبية للإمام عليّ (عليه السلام) فإنّ الأنصار سجّلوا على أنفسهم بذلك مذهباً لا يسمح لهم بأن يقفوا بعد السقيفة إلى صفّ الإمام ويخدموا قضيته وأحقّيته في الخلافة.
2 ـ بروز أبي بكر كمدافع وحيد عن حقوق المهاجرين بصورة عامّة وعن قريش خاصّة في مجتمع الأنصار، حيث إنّ الظرف كان مناسباً جدّاً، إذ خلا من أقطاب المهاجرين الذين لم يكن لتنتهي المسألة في محضرهم إلى نتيجتها التي انتهت إليها.
الثاني: الاُمويّون الذين كان لديهم مطمع سياسيّ كبير في نيل نصيب مرموق من الحكم، واسترجاع شيء من مجدهم السياسي في الجاهلية وعلى رأسهم أبو سفيان، وقد تعامل معهم أبو بكر وحزبه وفق معرفتهم بطبيعة النفس الاُموية وشهواتها السياسيّة والمادية، فكان من السهل على أبي بكر أن يتنازل عن بعض المبادئ والحقوق الشرعية، فدفع لأبي سفيان جميع ما في يده من أموال المسلمين وزكواتهم التي جمعها من سفره الذي بعثه فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) لجباية الأموال، ولم يعبأ الفائزون بالسقيفة بمعارضة الاُمويين وتهديد أبي سفيان وما أعلنه من كلمات الثورة والرغبة في تأييد الإمام (عليه السلام) وبني هاشم.
بل استفاد أبو بكر وحزبه من الاُمويّين في إضعاف دور بني هاشم حاضراً ومستقبلاً بأن جعلوا للاُمويّين حظّـاً في العمل الحكومي في عدّة من المرافق الهامّة في الدولة.
الثالث: الهاشميّون وأخصّاؤهم كعمار وسلمان وأبي ذر والمقداد رضوان الله عليهم، وجماعات كثيرة من الناس الذين كانوا يرون البيت الهاشمي هو صاحب الحقّ الشرعي بالخلافة، وهو الوارث الطبيعي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بحكم نصّ الغدير ومناهج السياسة التي كانوا يألفونها.
ولم تكن لتنطلي عليهم الحجج الواهية التي طرحتها أطراف السقيفة، فرأت فيهم تيارات تسعى للإستئثار بالحكم لإرضاء شهواتهم ونذيراً بانحراف التجربة الإسلامية من مسارها الصحيح.
نتائج السقيفة :
نجح أبو بكر وحزبه في مواجهة الأنصار والاُمويين، وكسب الموقف بأن أصبح خليفة للمسلمين، ولكنّ هذا النجاح جرّه إلى تناقض سياسي واضح، لأنّه لم يملك في السقيفة من رصيد إلاّ أن يجعلوا حجّتهم مبنيّة على أساس القرابة من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومن ثَمّ يقرّوا مذهب الوراثة للزعامة الدينية.
غير أنّ وجود بني هاشم كطرف معارض بدّل الوضع السياسي، واحتجّت المعارضة على أبي بكر وحزبه بنفس حجّتهم على باقي الأطراف، وهي إذا كانت قريش أولى برسول الله من سائر العرب فبنو هاشم أحقّ بالأمر من بقية قريش.
وهذا ما أعلنه الإمام عليّ (عليه السلام) حين قال: إذا احتجّ المهاجرون بالقُرب من رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانت الحجّة لنا على المهاجرين بذلك قائمة، فإن فلجت حجّتهم كانت لنا دونهم، وإلاّ فالأنصار على دعوتهم.
وأوضحه العباس في حديث له مع أبي بكر إذ قال له: وأمّا قولك نحن شجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإنكم جيرانها ونحن أغصانها[21].
فالإمام عليّ (عليه السلام) كان مصدر رعب ورهب في نفوس الفائزين في لعبة السقيفة وسدّاً منيعاً ازاء رغباتهم وطموحاتهم، وكان بإمكانه أن يستغلّ النفعيّين ـ وما أكثرهم! ـ والذين يميلون مع كلّ ريح وينعقون مع كلّ ناعق والذين يعرضون أصواتهم ومواقفهم رخيصة في الأسواق السياسية، وأن يشبع نهمهم ممّا خلّفه الرسول (صلى الله عليه وآله) من الخمس وغلاّت أراضي المدينة ونتاج «فدك» التي كانت تدرّ بالخيرات، إلاّ أنّه (عليه السلام) أبى عن كلّ ذلك لكمال شخصيّته وسموّ منزلته، هذا من جانب، ومن جانب آخر كان بوسعه (عليه السلام) أن يتحرّك محتجّاً أمام أرباب السقيفة بمبدأ القرابة الذي يعدّ ورقة رابحة بيده حتى ألمح لذلك بقوله (عليه السلام): «احتجوّا بالشجرة وأضاعوا الثمرة». وكان السواد الأعظم من الناس يقدّسون أهل البيت ويحترمونهم لذلك السبب، وبالتالي سيدفع السلطة الحاكمة الى أزمة سياسية حرجة لا مخرج منها، بيد أنّه (عليه السلام) كان أسمى من ذلك وأجلّ، حيث قدّم (عليه السلام) المصلحة الإسلامية العليا على كلّ المصالح الخاصة .
ولتلافي احتمال تحرّك الإمام على هذا المسار تردّدت السلطة بين موقفين:
أوّلاً: أن لا تقرّ للقرابة بشأن في الخلافة، وهذا معناه نزع الثوب الشرعي عن خلافة أبي بكر الذي تقمّصه يوم السقيفة.
ثانياً: أن تناقض السلطة الحاكمة نفسها وإصرارها على مبادئها التي أعلنتها في السقيفة مقابل بقيّة الأطراف، فلا ترى أيّ حق للهاشميّين في السلطة وهم أقرب الناس إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)، أو تراه لهم، ولكن في غير ذلك الظرف الذي يكون معنى المعارضة مقابلة حكم قائم ووضع قد تعاقد عليه الناس.
وكان الخيار الثاني هو خيار السلطة[22].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] يروى أنّ كثيراً من زعماء قريش كانوا يجاهرون بالعداء للدين ولكنّهم يذهبون خلسةً لاستماع القرآن.
[2] شرح نهج البلاغة : 17 / 272 .
[3] مروج الذهب: 2 / 253، وشرح النهج لابن أبي الحديد: 1 / 189 ط دار احياء التراث العربي، الكامل في التأريخ: 3 / 63 و 64 .
[4] نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 3 / 283.
[5] تأريخ الطبري: 2 / 459 ط مؤسسة الأعلمي.
[6] راجع طبقات ابن سعد : 3 / ق 2 / 145، وأنساب الأشراف : 1 / 589 ، والعقد الفريد : 4 / 247، السقيفة والخلافة لعبدالفتاح عبدالمقصود : 13، والسقيفة انقلاب أبيض : اغتيال خالد بن سعيد بن العاص، وابن عساكر : ترجمة سعد بن عبادة وكنز العمّال : 3 / 134.
[7] تأريخ الطبري: 2 / 618 ط مؤسسة الأعلمي، وسيرة عمر لابن الجوزي: 37، والكامل في التأريخ: 2 / 425.
[8] أنساب الاشراف : 5 / 19 .
[9] الكامل في التأريخ: 2 / 420.
[10] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1 / 190 ط دار إحياء التراث العربي، وتأريخ الطبري: 3 / 292 قصة الشورى، والكامل في التأريخ: 3 / 65.
[11] مروج الذهب للمسعودي: 3 / 199، وقعة صفّين لنصر بن مزاحم: 119.
[12] الإمامة والسياسة: 29، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 6 / 11.
[13] راجع خطبة الزهراء في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله)، وبحار الأنوار: 29 / 220.
[14] النص والاجتهاد للسيد شرف الدين: 25 ط اُسوة.
[15] تذكرة الخواص: 61، وراجع صحيح البخاري: كتاب الحدود، باب رجم الحُبلى.
[16] الإمامة والسياسة: 21. والرِتاج: الباب المغلق.
[17] تاريخ الطبري: 2 / 449، والكامل في التاريخ: 2 / 326 ط دار الفكر.
[18] تأريخ الطبري: 2 / 449 ط دار الأعلمي، والكامل في التأريخ: 2 / 326.
[19] فقد روي أنّ أبا سفيان اجتاز على جماعة من المسلمين منهم أبو بكر وسلمان وصهيب وبلال، فقال بعضهم: أما أخذت سيوف الله من عنق عدّو الله مأخذها؟
فزجرهم أبو بكر وقال لهم: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيّدهم؟.. ومضى مسرعاً إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) يخبره بمقالة القوم فردّ عليه الرسول (صلى الله عليه وآله) قائلاً: يا أبا بكر لعلك أغضبتهم؟ لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت الله. صحيح البخاري: 2 / 362.
[20] الكامل في التأريخ: 2 / 331.
[21] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 6 / 5.
[22] راجع تفصيل ذلك في «فدك في التأريخ» للشهيد الصدر: 84 ـ 96، وتأريخ الطبري: 2 / 449 و 450 (أحداث السقيفة
خادم الحسين- مشترك مجتهد
- عدد الرسائل : 125
نقاط : 0
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 13/05/2008
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى