التوسل/ منقول
صفحة 1 من اصل 1
التوسل/ منقول
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد الائمة والمهديين وسلم تسليم
--------------
التوسّل لغة واصطلاحاً
التوسّل لغة من وسلت إلى ربّي وسيلة: عملتُ عملاً أتقرّبُ به إليه، وتوسّلت إلى فلان بكتاب أو قرابة، أي تقربتُ به إليه(1).
وقال الجوهري في الصحاح: الوسيلة ما يتقرّب به إلى الغير والجمع: الوُسُل والوسائل(2).
ونحن في غنى عن تحقيق معنى الوسيلة في اللغة؛ لاَنّها من المفاهيم الواضحة لدينا وحقيقتها لا تتجاوز اتّخاذ شيء ذريعة إلى أمر آخر يكون هو المقصود والمبتغى، وهي تختلف حسب اختلاف المقاصد.
-------------------------------------------
التوسّل بأسمائه وصفاته
أمر الله سبحانه عباده بدعائه بأسمائه الحسنى فقال تعالى: (وَللهِِ الاََْسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )(1).
إنّ الآية تصف أسماءه كلَّها بالحسنى لحسن معانيها، من غير فرق بين ما يرجع إلى صفات ذاته كالعالم والقادر، والحي، وما يرجع إلى صفات فعله كالخالق والرازق والمحيي والمميت، ومن غير فرق بين ما يفيد التنزيه ورفع النقص كالغنيّ والقدّوس، وما يعرب عن رحمته وعفوه كالغفور والرحيم، فعلى المسلم دعاؤه سبحانه بها فيقول: يا الله يا رحمن يا رحيم، يا خالق السماوات والاَرض، يا غافر الذنوب ويا رازق الطفل الصغير. وتركِ عملِ الذين يعدلون بأسماء الله تعالى عمّا هي عليه فيسمّون بها أصنامهم بالزيادة والنقصان، فيسمّون أصنامهم باللات والعزّى أخذاً من الله العزيز، سيجزون ما كانوا يعملون في الآخرة.
فعندما يذكره العبد بأسمائه التي تضمّنت كل خير وجمال، ورحمة ومغفرة
____________
(1) الاَعراف: 180.
( 10 )
وعزّة وقدرة، ثم يعقبه بما يطلبه من مغفرة الذنوب وقضاء الحوائج فيستجيب له سبحانه، وقد دلّت على ذلك، الآثار الصحيحة التي نذكر منها ما يلي:
1 ـ أخرج الترمذي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أنّ رسول الله سمع رجلاً يقول: اللّهمّ إنّي أسألك بأنّي أشهد أنّك أنت الله لا إله إلاّ أنت، الاَحد، الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فقال النبي: «لقد سألتَ الله باسمه الاَعظم الذي إذا دُعيَ به أجاب، وإذا سُئل به أعطى»(1).
والحديث تضمّن بيان الوسيلة، والتوسّل بالاَسماء، وإن لم يأت فيه الغرض الذي لاَجله سأل الله تعالى بأسمائه.
2 ـ عن أبي هريرة قال: جاءت فاطمة إلى _ صلى الله عليه وآله وسلم _ تسأله خادماً، فقال لها : «قولي: اللّهمّ ربّ السماوات السبع، وربّ العرش العظيم، ربّنا وربّ كل شيء ومنزل التوراة والاِنجيل والقرآن، فالق الحبّ والنوى، أعوذ بك من شرّ كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الاَوّل فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين وأغنني من الفقر»(2).
3 ـ وأخرج أحمد والترمذي عن أنس بن مالك، أنّه كان مع رسول الله جالساً ورجل يصلّي، ثم دعا: اللّهم إنّي أسألك بأنّ لك الحمد لا إله إلاّ أنت، أنت المنّان بديع السماوات والاَرض يا ذا الجلال والاِكرام يا حيّ يا قيّوم، فقال النبي: «تدرون بم دعا الله ؟ دعا الله باسمه الاَعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى»(3).
____________
(1) الترمذي، الصحيح 5: 515 برقم 3475، الباب 65 من كتاب الدعوات.
(2) الترمذي، الصحيح 5: 518 برقم 3481، الباب 68 من كتاب الدعوات.
(3) الترمذي، الصحيح 5: 549 ـ 550 برقم 3544، الباب 100 من كتاب الدعوات.
( 11 )
وفي روايات أئمة أهل البيت: نماذج من هذا النوع من التوسّل يقف عليها الذي يسبر رواياتهم وأحاديثهم.
4 ـ فقد روى الاِمام الرضا _ عليه السلام _ عن جدّه محمد الباقر _ عليه السلام _ أنّه كان يدعو الله تبارك وتعالى في شهر رمضان بدعاء جاء فيه: «اللّهمّ إنّي أسألك بما أنت فيه من الشأن والجبروت، وأسألك بكلّ شأن وحده وجبروت وحدها، اللّهم إنّي أسألك بما تجيبني به حين أسألك فأجبني يا الله»(1).
5 ـ روى الشيخ الطوسي في مصباحه عن الاِمامين الباقر والصادق8 دعاءً باسم دعاء السمات مستهلّه:
«اللّهمّ إنّي أسألك باسمك العظيم الاَعظم، الاَعزّ الاَجلّ الاَكرم، الذي إذا دُعيتَ به على مغالق أبواب السماء للفتح بالرحمة، انفتحت؛ وإذا دُعيتَ به على مضايق أبواب الاَرض للفرج، انفرجت؛ وإذا دعيت به على العسير لليسر تيسّرت...»(2).
إنّ ثناء الله وتقديسه ووصفه بما وصف به في كتابه وسنّة نبيّه، يوجد أرضية صالحة لاستجابة الدعاء، ويكشف عن استحقاق الداعي لرحمته وعفوه وكرمه. وبما أنّ هذا القسم من التوسّل اتّفقت عليه الاَُمّة سلفها وخلفها ولم يذكر فيه أيّ خلاف فلنتقصر فيه على هذا المقدار.
____________
(1) إقبال الاَعمال : 348، ط 1416 هـ.
(2) مصباح المتهجد: ص 374.
____________________________________
التوسّل بالقرآن الكريم
إنّ الاِنسان مهما كان مبدعاً في الوصف والتعبير، لا يستطيع أن يصف كلام الله العزيز بمثل ماوصفه به سبحانه، فقد وصف هو كتابه بأنّه نور، وكتاب مبين، وهدىً للمتّقين، نزل بالحق تبياناً لكل شيء، إلى غير ذلك من المواصفات الواردة فيه.
وكتابه سبحانه، فعله، فالتوسّل بالقرآن والسؤال به، توسّل بفعله سبحانه ورحمته التي وسعت كل شيء، ومع ذلك كلّه يجب على المتوسّل، التحقّق من وجود دليل على جواز هذا النوع من التوسّل، لما عرفت من أنّ كل ما يقوم به المسلم من التوسّلات يلزم أن لا يخدش أصل التوحيد وحرمة التشريع، ولحسن الحظ أنَّك ترى وروده في الشرع.
روى الاِمام أحمد، عن عمران بن الحصين، أنّه مرّ على رجل يقصّ، فقال عمران: إنّا لله وإنّا إليه راجعون سمعت رسول الله يقول: «اقرأوا القرآن واسألوا الله تبارك وتعالى به قبل أن يجيء قوم يسألون به الناس»(1). فعموم لفظ الحديث
____________
(1) الاِمام أحمد، المسند 4: 445. ورواه في كنز العمال عن الطبراني في الكبير، والبيهقي في شعب الاِيمان، لاحظ ج1: 608 | 2788.
( 13 )
يدلّ على جواز سؤاله سبحانه بكتابه المنزل ما شاء من الحوائج الدنيوية والاَُخروية.
والاِمعان في الحديث يرشدنا إلى حقيقة واسعة وهي جواز السؤال بكل من له عند الله منزلة وكرامة، وما وجه السؤال بالقرآن إلاّ لكونه عزيزاً عند الله، مكرّماً لديه، وهو كلامه وفعله، وهذا أيضاً متحقّق في رسوله الاَعظم وأوليائه الطاهرين عليهم سلام الله أجمعين.
وورد عن أئمة أهل البيت: أنّه يستحبّ في ليلة القدر أن يفتح القرآن فيقول: «اللّهمّ إنّي أسألك بكتابك المنزل وما فيه، وفيه اسمك الاَكبر وأسماؤك الحسنى وما يخاف ويرجى أن تجعلني من عتقائك من النار»(1).
____________
(1) إقبال الاِعمال: ص 41. رواه حريز بن عبد الله السجستاني عن أبي جعفر الباقر _ عليه السلام _.
اللهم صل على محمد وال محمد الائمة والمهديين وسلم تسليم
--------------
التوسّل لغة واصطلاحاً
التوسّل لغة من وسلت إلى ربّي وسيلة: عملتُ عملاً أتقرّبُ به إليه، وتوسّلت إلى فلان بكتاب أو قرابة، أي تقربتُ به إليه(1).
وقال الجوهري في الصحاح: الوسيلة ما يتقرّب به إلى الغير والجمع: الوُسُل والوسائل(2).
ونحن في غنى عن تحقيق معنى الوسيلة في اللغة؛ لاَنّها من المفاهيم الواضحة لدينا وحقيقتها لا تتجاوز اتّخاذ شيء ذريعة إلى أمر آخر يكون هو المقصود والمبتغى، وهي تختلف حسب اختلاف المقاصد.
-------------------------------------------
التوسّل بأسمائه وصفاته
أمر الله سبحانه عباده بدعائه بأسمائه الحسنى فقال تعالى: (وَللهِِ الاََْسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )(1).
إنّ الآية تصف أسماءه كلَّها بالحسنى لحسن معانيها، من غير فرق بين ما يرجع إلى صفات ذاته كالعالم والقادر، والحي، وما يرجع إلى صفات فعله كالخالق والرازق والمحيي والمميت، ومن غير فرق بين ما يفيد التنزيه ورفع النقص كالغنيّ والقدّوس، وما يعرب عن رحمته وعفوه كالغفور والرحيم، فعلى المسلم دعاؤه سبحانه بها فيقول: يا الله يا رحمن يا رحيم، يا خالق السماوات والاَرض، يا غافر الذنوب ويا رازق الطفل الصغير. وتركِ عملِ الذين يعدلون بأسماء الله تعالى عمّا هي عليه فيسمّون بها أصنامهم بالزيادة والنقصان، فيسمّون أصنامهم باللات والعزّى أخذاً من الله العزيز، سيجزون ما كانوا يعملون في الآخرة.
فعندما يذكره العبد بأسمائه التي تضمّنت كل خير وجمال، ورحمة ومغفرة
____________
(1) الاَعراف: 180.
( 10 )
وعزّة وقدرة، ثم يعقبه بما يطلبه من مغفرة الذنوب وقضاء الحوائج فيستجيب له سبحانه، وقد دلّت على ذلك، الآثار الصحيحة التي نذكر منها ما يلي:
1 ـ أخرج الترمذي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أنّ رسول الله سمع رجلاً يقول: اللّهمّ إنّي أسألك بأنّي أشهد أنّك أنت الله لا إله إلاّ أنت، الاَحد، الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فقال النبي: «لقد سألتَ الله باسمه الاَعظم الذي إذا دُعيَ به أجاب، وإذا سُئل به أعطى»(1).
والحديث تضمّن بيان الوسيلة، والتوسّل بالاَسماء، وإن لم يأت فيه الغرض الذي لاَجله سأل الله تعالى بأسمائه.
2 ـ عن أبي هريرة قال: جاءت فاطمة إلى _ صلى الله عليه وآله وسلم _ تسأله خادماً، فقال لها : «قولي: اللّهمّ ربّ السماوات السبع، وربّ العرش العظيم، ربّنا وربّ كل شيء ومنزل التوراة والاِنجيل والقرآن، فالق الحبّ والنوى، أعوذ بك من شرّ كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الاَوّل فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين وأغنني من الفقر»(2).
3 ـ وأخرج أحمد والترمذي عن أنس بن مالك، أنّه كان مع رسول الله جالساً ورجل يصلّي، ثم دعا: اللّهم إنّي أسألك بأنّ لك الحمد لا إله إلاّ أنت، أنت المنّان بديع السماوات والاَرض يا ذا الجلال والاِكرام يا حيّ يا قيّوم، فقال النبي: «تدرون بم دعا الله ؟ دعا الله باسمه الاَعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى»(3).
____________
(1) الترمذي، الصحيح 5: 515 برقم 3475، الباب 65 من كتاب الدعوات.
(2) الترمذي، الصحيح 5: 518 برقم 3481، الباب 68 من كتاب الدعوات.
(3) الترمذي، الصحيح 5: 549 ـ 550 برقم 3544، الباب 100 من كتاب الدعوات.
( 11 )
وفي روايات أئمة أهل البيت: نماذج من هذا النوع من التوسّل يقف عليها الذي يسبر رواياتهم وأحاديثهم.
4 ـ فقد روى الاِمام الرضا _ عليه السلام _ عن جدّه محمد الباقر _ عليه السلام _ أنّه كان يدعو الله تبارك وتعالى في شهر رمضان بدعاء جاء فيه: «اللّهمّ إنّي أسألك بما أنت فيه من الشأن والجبروت، وأسألك بكلّ شأن وحده وجبروت وحدها، اللّهم إنّي أسألك بما تجيبني به حين أسألك فأجبني يا الله»(1).
5 ـ روى الشيخ الطوسي في مصباحه عن الاِمامين الباقر والصادق8 دعاءً باسم دعاء السمات مستهلّه:
«اللّهمّ إنّي أسألك باسمك العظيم الاَعظم، الاَعزّ الاَجلّ الاَكرم، الذي إذا دُعيتَ به على مغالق أبواب السماء للفتح بالرحمة، انفتحت؛ وإذا دُعيتَ به على مضايق أبواب الاَرض للفرج، انفرجت؛ وإذا دعيت به على العسير لليسر تيسّرت...»(2).
إنّ ثناء الله وتقديسه ووصفه بما وصف به في كتابه وسنّة نبيّه، يوجد أرضية صالحة لاستجابة الدعاء، ويكشف عن استحقاق الداعي لرحمته وعفوه وكرمه. وبما أنّ هذا القسم من التوسّل اتّفقت عليه الاَُمّة سلفها وخلفها ولم يذكر فيه أيّ خلاف فلنتقصر فيه على هذا المقدار.
____________
(1) إقبال الاَعمال : 348، ط 1416 هـ.
(2) مصباح المتهجد: ص 374.
____________________________________
التوسّل بالقرآن الكريم
إنّ الاِنسان مهما كان مبدعاً في الوصف والتعبير، لا يستطيع أن يصف كلام الله العزيز بمثل ماوصفه به سبحانه، فقد وصف هو كتابه بأنّه نور، وكتاب مبين، وهدىً للمتّقين، نزل بالحق تبياناً لكل شيء، إلى غير ذلك من المواصفات الواردة فيه.
وكتابه سبحانه، فعله، فالتوسّل بالقرآن والسؤال به، توسّل بفعله سبحانه ورحمته التي وسعت كل شيء، ومع ذلك كلّه يجب على المتوسّل، التحقّق من وجود دليل على جواز هذا النوع من التوسّل، لما عرفت من أنّ كل ما يقوم به المسلم من التوسّلات يلزم أن لا يخدش أصل التوحيد وحرمة التشريع، ولحسن الحظ أنَّك ترى وروده في الشرع.
روى الاِمام أحمد، عن عمران بن الحصين، أنّه مرّ على رجل يقصّ، فقال عمران: إنّا لله وإنّا إليه راجعون سمعت رسول الله يقول: «اقرأوا القرآن واسألوا الله تبارك وتعالى به قبل أن يجيء قوم يسألون به الناس»(1). فعموم لفظ الحديث
____________
(1) الاِمام أحمد، المسند 4: 445. ورواه في كنز العمال عن الطبراني في الكبير، والبيهقي في شعب الاِيمان، لاحظ ج1: 608 | 2788.
( 13 )
يدلّ على جواز سؤاله سبحانه بكتابه المنزل ما شاء من الحوائج الدنيوية والاَُخروية.
والاِمعان في الحديث يرشدنا إلى حقيقة واسعة وهي جواز السؤال بكل من له عند الله منزلة وكرامة، وما وجه السؤال بالقرآن إلاّ لكونه عزيزاً عند الله، مكرّماً لديه، وهو كلامه وفعله، وهذا أيضاً متحقّق في رسوله الاَعظم وأوليائه الطاهرين عليهم سلام الله أجمعين.
وورد عن أئمة أهل البيت: أنّه يستحبّ في ليلة القدر أن يفتح القرآن فيقول: «اللّهمّ إنّي أسألك بكتابك المنزل وما فيه، وفيه اسمك الاَكبر وأسماؤك الحسنى وما يخاف ويرجى أن تجعلني من عتقائك من النار»(1).
____________
(1) إقبال الاِعمال: ص 41. رواه حريز بن عبد الله السجستاني عن أبي جعفر الباقر _ عليه السلام _.
خادم الحسين- مشترك مجتهد
- عدد الرسائل : 125
نقاط : 0
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 13/05/2008
التوسل/ منقول
إذا كان التوسّل بمعنى تقديم شيء إلى ساحة الله ليستجيب الدعاء، فلا شك في أنّ العمل الصالح أحسن شيء يتقرّب به الاِنسان إلى الله تعالى، وأحسنُ وسيلةٍ يُتمسّك بها فتكون نتيجة التقرّب هي نزول رحمته عليه وإجابة دعائه، وفي بعض الآيات الكريمة تلميح إلى ذلك، وإن لم يكن فيها تصريح إلاّ أنّ السنّة النبويّة صرّحت بذلك، أمّا الآيات فنأتي بنموذجين منها:
1 ـ (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )(1).
ترى أنّ إبراهيم وولده الحليم قدّما إلى الله تبارك وتعالى وسيلة وهي بناء البيت، فعند ذلك طلبا من الله سبحانه عدّة أُمور تجمعها الاَُمور التالية:
تقبّل منّا، واجعلنا مسلمين لك، ومن ذريّتنا أُمّة مسلمة لك، وأرنا مناسكنا، وتب علينا.
____________
(1) البقرة: 127 ـ 128.
( 15 )
والآية وإن لم تكن صريحة فيما نبتغيه غير أنّ دعاء إبراهيم في الظروف التي كان يرفع فيها قواعد البيت مع ابنه، ترشدنا إلى أنّ طلب الدعاء في ذلك الظرف، لم يكن أمراً اعتباطياً، بل كانت هناك صلة بين العمل الصالح والدعاء، وأنّه في قرارة نفسه تمسك بالاَوّل ليستجيب دعاءه.
2 ـ قوله سبحانه: ( الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )(1).
ترى أنّه عطف طلب الغفران بالفاء على قوله: (ربّنا إنّنا آمنّا ) ، ففاء التفريع تعرب عن صلة بين الاِيمان وطلب الغفران.
وأنت إذا سبرت الآيات الكريمة تقف على نظير ذلك فكلّها من قبيل التلميح لا التصريح، غير أنّ في السنّة النبوية تصريح على أنّ ذكر العمل الصالح الذي أتى به الاِنسان لله تبارك وتعالى، يثير رحمته، فتنزل رحمته على عبده ويُستجاب دعاؤه، وقد روى الفريقان القصّة التالية وفيها غنى وكفاية:
روى البخاري عن ابن عمران عن _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قال: «بينما ثلاثة نفر ممّن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر، فآووا إلى غارٍ فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنّه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلاّ الصدق، فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنّه قد صدق فيه.
فقال واحد منهم: اللّهمّ إن كنت تعلم أنّه كان لي أجير عمِلَ لي على فرق من أرُز، فذهب وتركه، وإنّي عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته، فصار من أمره أنّي اشتريت منه بقراً، وأنّه أتاني يطلب أجره، فقلت: اعمد إلى تلك البقر فسقها، فقال لي: إنّما لي عندك فَرَق من أرُز، فقلت له: اعمد إلى تلك البقر فإنّها من ذلك
____________
(1) آل عمران: 16.
( 16 )
الفَرَق، فساقها، فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك، ففرّج عنّا، فانساحت عنهم الصخرة.
فقال الآخر: اللّهمّ إن كنت تعلم كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي فأبطأتُ عليهما ليلةً، فجئتُ وقد رقدا، وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع، فكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي، فكرهت أن أُوقظهما وكرهت أن أدعهما فَيسْتَكنّا لشربتهما، فلم أزل انتظر حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنّا، فانساحت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء.
فقال الآخر: اللّهمّ إن كنت تعلم أنّه كان لي ابنة عم من أحبّ الناس إليّ وأنّي راودتها عن نفسها فأبت إلاّ أن آتيها بمائة دينار، فطلبتها حتى قدرتُ، فأتيتها بها، فدفعتها إليها، فأمكنتني من نفسها، فلمّا قعدت بين رجليها فقالت: اتّق الله ولا تفضّ الخاتم إلاّ بحقّه، فقمت وتركت المائة دينار، فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنّا، ففرّج الله عنهم فخرجوا»(1).
لم تكن الغاية من تحديث النبي بما ذكر إلاّ تعليم أُمّته حتى يتّخذوا ذكر العمل الصالح وسيلة لاستجابة دعوتهم. ولو كان ذلك من خصائص الاَُمم الماضية لصرّح بها. وقد رواه الفريقان باختلاف في اللّفظ.
3 ـ روى البرقي أحمد بن خالد (ت 274 هـ) في محاسنه، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن المفضل بن صالح، عن جابر الجعفي، يرفعه قال: قال رسول الله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : «خرج ثلاثة نفر يسيحون في الاَرض، فبينما هم يعبدون الله في كهف في قلّة جبل حتى بدت صخرة من أعلى الجبل حتى التقمت باب الكهف، فقال بعضهم
____________
(1) البخاري، الصحيح 4: 173،كتاب الاَنبياء ، الباب 53 ؛ ورواه في كتاب البيوع ، الباب 98، واللفظ لكتاب الاَنبياء.
( 17 )
لبعض: عباد الله والله ما ينجيكم ممّا وقعتم إلاّ أن تصدقوا الله، فهلمّوا ما عملتم لله خالصاً، فانّما أُسلمتم بالذنوب.
فقال أحدهم: اللّهمّ إن كنت تعلم أنّي طلبت امرأة لحسنها وجمالها، فأعطيت فيها مالاً ضخماً، حتى إذا قدرت عليها وجلست منها مجلس الرجل من المرأة وذكرت النار، فقمت عنها فزعاً منك، اللّهمّ فارفع عنّا هذه الصخرة، فانصدعت حتى نظروا إلى الصدع.
ثم قال الآخر: اللّهمّ إن كنت تعلم أنّي استأجرت قوماً يحرثون كل رجل منهم بنصف درهم، فلمّا فرغوا أعطيتهم أُجورهم، فقال أحدهم: قد عملت عمل اثنين والله لا آخذ إلاّ درهماً واحداً، وترك ماله عندي، فبذرت بذلك النصف الدرهم في الاَرض، فأخرج الله من ذلك رزقاً، وجاء صاحب النصف الدرهم فأراده، فدفعت إليه ثمن عشرة آلاف، فإن كنت تعلم أنّما فعلته مخافة منك فارفع عنّا هذه الصخرة، قال: فانفرجت منهم حتى نظر بعضهم إلى بعض.
ثم إنّ الآخر قال: اللّهمّ إن كنت تعلم أنّ أبي وأُمّي كانا نائمين، فأتيتهما بقعب من لبن، فخفت أن أضعه أن تمج فيه هامة، وكرهت أن أُوقظهما من نومهما، فيشق ذلك عليهما، فلم أزل كذلك حتى استيقظا وشربا، اللّهمّ فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك ابتغاء وجهك فارفع عنّا هذه الصخرة، فانفرجت لهم حتى سهل لهم طريقهم، ثم قال _ صلى الله عليه وآله وسلم _: من صدق اللهنجا»(1).
4 ـ وقال الاِمام الطبرسي: أصحاب الرقيم هم النفر الثلاثة الذين دخلوا في
____________
(1) نور الثقلين: الجزء 3 في تفسير قوله: ( أم حسبت أنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً ) (الكهف: 9) نقلاً عن محاسن البرقي في تفسير الآية.
( 18 )
غار، فانسدّ عليهم، فقالوا: ليدعُ الله تعالى كل واحد منّا بعمله حتى يفرّج الله عنّا، ففعلوا، فنجّاهم الله. رواه النعمان بن بشر مرفوعاً(1).
ولعل فيها غنىً وكفاية ومن أراد التوسّع فعليه السبر في غضون الروايات.
____________
(1) مجمع البيان 3: 452.
خادم الحسين- مشترك مجتهد
- عدد الرسائل : 125
نقاط : 0
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 13/05/2008
التوسل/منقول
التوسّل بدعاء الرسول الاَكرم
إنّ للنبي الاَكرم مكانة مرموقة عند ربّه ليس لاَحدٍ مثلها، فهو أفضل الخليقة ، وقد بلغت عناية القرآن الكريم ببيان نواح من مناقبه إلى حد لا ترى مثل ذلك إلاّ في حق القليل من أنبيائه، وربما يطول بنا الكلام إذا قمنا بعرض جميع الآيات الواردة في حقّه، وإنّما نشير إلى بعضها.
فقد أشار الذكر الحكيم إلى مكانته المرموقة ولزوم توقيره وتكريمه وأنّه لا يصلح دعاؤه كدعاء البعض للبعض بقوله سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ )(1)وقال سبحانه أيضاً: ( لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً )(2).
وإلى كماله الرفيع وإمامته وكونه قدوة وأُسوة للمؤمنين يتأسّون به في قِيَمه ومُثُله العليا، بقوله سبحانه: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ
____________
(1) الحجرات: 2.
(2) النور: 63.
( 20 )يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الاَْخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً )(1).
وإلى عظمته وكرامته عند الله بحيث يصلّي عليه سبحانه وملائكته فأمر المؤمنين أن يصلّوا عليه بقوله: ( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً )(2).
وإلىصفاء نفسه وقوة روحه وجمال خلقه بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ )(3).
وإلى عكوفه على عبادة ربّه وتهجّده في الليل وسهره في طريق طاعة الله بقوله: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ )(4).
وإلى غزارة علمه بقوله: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً )(5).
وإلى أنّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ أحد الاَمانين في الاَرض بقوله: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ )(6).
وقد بلغت كرامة الرسول ـ عند الله ـ إلى حدّ يتلو اسمه اسمَ الله وينسب إليهما فعلواحدويقول: (وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدّونَ إلى عالِمِ الغَيْبِ والشَّهَادةِ )(7).
وقال سبحانه: (وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً )(8).
____________
(1) الاَحزاب: 21.
(2) الاَحزاب: 56.
(3) القلم: 4.
(4) المزمل: 20.
(5) النساء: 113.
(6) الاَنفال: 33.
(7) التوبة: 94.
(8) الاَحزاب: 71.
( 21 )
وقال الله سبحانه: (وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمْ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ )(1).
إلى غير ذلك من الآيات التي اقترن فيها اسم نبيه باسمه سبحانه ونسب إليهما فعل واحد وشهدت بكرامته عند الله وقربه منه، فإذا كانت هذه منزلته عند الله، فلا يرد دعاؤه، وتستجاب دعوته، فيكون دعاء مثل تلك النفس غير مردود، والمتمسك بدعائه متمسكاً بركن وثيق وعماد رصين، ولاَجل تلك الخصوصية نرى أنّه سبحانه يأمر المذنبين من المسلمين بالتمسّك بذيل دعائه، ويأمرهم بأن يحضروا الرسول الاَعظم ويستغفروا الله في مجلسه ويسألوه أن يستغفر لهم أيضاً، فكان استغفاره لهم سبباً لنزول رحمته وقبوله توبتهم، قال سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً )(2).
كما نرى أنّه سبحانه في آية أُخرى يندّد بالمنافقين بأنّه، إذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله، لوّوا رؤوسهم، يقول سبحانه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ )(3).
وما هذا إلاّ لاَنّ دعاء الرسول دعاء مستجاب، ودعوته مقبولة، واستغاثته مستجابة، لاَنّه نابع من نفس طاهرة مؤمنة راضية مرضية.
إنّ من الظلم الواضح تسوية دعاء النبي بدعاء سائر المسلمين والتعبير عن دعائه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ بدعاء الاَخ المؤمن ! وجعل الجميع تحت عنوان واحد، فانّ لدعاء الاَخ المؤمن مقاماً رفيعاً، ولكن أين هو من دعاء الرسول ؟!
إنّ التوسّل بدعاء الاِنسان الاَمثل كان رائجاً في الرسالات السابقة، فنرى أنّ
____________
(1) التوبة: 74.
(2) النساء: 64.
(3) المنافقون: 5.
( 22 )أبناء يعقوب بعدما كُشِفَ أمرهم وبان ظلمهم توسّلوا بدعاء أبيهم النبيّ وقالوا له: (يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ* قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )(1).
ففي هذه الآيات دلالة واضحة على أنّ رحمة الله الواسعة تارة تنزل على العبد مباشرة وبدون واسطة، واُخرى تنزل عن طريق أفضل خلائقه وأشرف رسله، بل مطلق رسله وسفرائه.
وفي ذلك دلالة على وهن ما يلوكه بعض أشداق الناس فيقولون: إنّه سبحانه أعرف بحال عبده وأقرب إليه من حبل الوريد يراه ويسمع دعاءه؛ فلا حاجة لتوسط سبب والتوسّل بمخلوق و... هذه الكلمات تصدر عمّن ليس له إلمام بالقرآن الكريم ولا بالسنّة النبوية ولا بسيرة السلف الصالح؛ إذ ليس الكلام في علمه سبحانه، بل الكلام في أمر آخر وهو أنّ دعاء الاِنسان الظالم لنفسه ربما لا يكون صاعداً إلى الله تبارك وتعالى ومقبولاً عنده، ولكنّه إذا ضمّ إليه دعاء الرسول أصبح دعاؤه مستجاباً وصاعداً إليه سبحانه.
وللشيخ محمد الفقي ـ من علماء الاَزهر الشريف ـ كلام في المقام نأتي بملخّصه .
لقد شرّف الله تعالى نبيّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ بأسمى آيات التشريف، وكرّمه بأكمل وأعلى آيات التكريم، فأسبغ عليه نِعَمه ظاهرة وباطنة، وتوّجه بأعظم أنواع التيجان قدراً وذكراً، وأرفع الاَكاليل شأناً وخطراً. فذكر منزلته منه جلّ شأنه حيّاً وميتاً في قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً )(2)فأيّ تشريف أرفع وأعظم من صلاته سبحانه وتعالى هو وملائكته عليه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ؟ وأيّ تكريم أسمى بعد ذلك من دعوة عباده وأمره لهم بالصلاة
____________
(1) يوسف: 97 ـ 98.
(2) الاَحزاب: 56.
( 23 )والسلام عليه [size=9]_ صلى الله عليه وآله وسلم _ ؟
ولم يقف تقدير الله تعالى له عند هذا التقدير الرائع، بل هناك ما يدعو إلى الاِعجاب ويلفت الاَنظار إلى تعظيم على جانب من الاَهمية، ألم تر في قوله تعالى:( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ )(1)ما يأخذ بالاَلباب ويدهش العقول، فقد أقسم سبحانه وتعالى بنبيّه في هذه الآية: ( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ )(2)قال ابن عباس 2: ما خلق الله ولا ذرأ ولا برأ نفساً أكرم على الله من محمد _ صلى الله عليه وآله وسلم _ .
وما سمعتُ أنّه تعالى أقسم بحياة أحد غيره، والقرآن الكريم تفيض آياته بسموّ مقامه، وتوحي بعلوّ قدره، وجميل ذكره، فقد جعل طاعته _ صلى الله عليه وآله وسلم _ طاعة له تعالى وقوله عزّ من قائل: (مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ )(3)وعلّق حبّه تعالى لعباده على اتّباعه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فيما بعث به وأرسل للعالمين، إذ يقول سبحانه: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ )(4).
وممّا يدل على مبلغ تقديره، ومدى محبة الله تعالى، وتشريفه لرسوله [size=9]_ صلى الله عليه وآله وسلم _ قوله تعالى: ص وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ش(5)الآية، قال عليّ 2: «لم يبعث الله نبياً من آدم فمن بعده إلاّ أخذ عليه العهد في محمد _ صلى الله عليه وآله وسلم _ لئن بعث وهو حيّ ليؤمننّ به ولينصرنّه ويأخذ العهد».
ففي ملازمة جبريل له _ صلى الله عليه وآله وسلم _ من مكّة إلى بيت المقدس أكبر مظهر من مظاهر الشرف والفخار، وأسمى آية من آيات التقدير للرسول الاَعظم في حياة الاَُمم
____________
(1) الحجر:72.
(2) الواقعة: 76.
(3) النساء: 80.
(4) آل عمران: 31.
(5) آل عمران: 81.
( 24 )وتأريخها. فهذه الآيات التي قصصتها وجئتكم بها وإن كانت كلّها بصائر وهدى ورحمة لقوم يؤمنون لا أرى مانعاً من ذكر ما عداها، ففيها تنبيه الغافلين إلى مزيد من النظر فيما عساه أن يقنعهم ويهديهم إلى الاِيمان بما جاءت به الآيات البيّنات، وما يوحي به الدين وتعاليمه القويمة، فمن روائع ما يتمتع به من العظمة الصلاة عليه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ عند بدء الدعاء وختمه؛ فانّ في ذلك القبول والاستجابة، فقد صحّ عن عمر وعليّـرضي الله عنهما ـ أنّهما قالا لرجل دعا ولم يصلِّ على _ صلى الله عليه وآله وسلم _: «إنّ الدعاء موقوف بين السماء والاَرض لا يرفع ولا تفتح له الاَبواب حتى يصلّي الداعي على _ صلى الله عليه وآله وسلم _»، ومثل هذا لا يقال من قبيل الرأي فهو في حكم المرفوع، بل قد ثبت هذا مرفوعاً إلى _ صلى الله عليه وآله وسلم _.
وأخيراً قد دلّ قوله تعالى: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ )(1)على علوّ مكانته وجليل قدره وعظم شأنه؛ إذ المعنى في ذلك أنّنا قرنّا اسمك باسمنا، وجعلنا الاِيمان لا يتحقّق إلاّ بالنطق بالشهادتين، وغير ذلك من براهين الشريعة وأدلّتها التي لا تحصى ولا يمكن أن تستقصى.
وإليك ما قاله حسان بن ثابت صاحب الرسول وشاعره:
أغرَّ عليه للنبوّة خاتم * من الله من نور يلوح ويشهد
وضمّ الاِله اسم النبيّ إلى اسمه * إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشقَّ له من اسمه لِيُجلَّه * فذو العرش محمود وهذا محمد(2)
إنّ السبب الواقعي لاستجابة دعائه إنّما هو روحه الطاهرة ونفسه الكريمة
____________
(1) الانشراح: 4.
(2) التوسّل والزيارة ص 156 ـ 160، وقد أورد في بحثه كثيراً من الآيات التي تشهد على عظمة رسول الله ومكانته وقربه وقد لخّصنا كلامه.
( 25 )وقربها من الله سبحانه، وهي التي تضفي على الدعاء أثراً وتجعله صاعداً ومدعماً لدعاء الغير.
نعم هناك كلام في اختصاص ذلك الاَمر بحياة النبي الجسمانية، أو يعمّ حياته البرزخية التي فيها يُرزق ويفرح ويستبشر، فهناك من يخص الآية بحياته الجسمانية بحجة وروده فيها، ولكن الاَدلة التي سنبيّنها توقفك على جلي الحال، فانتظر...
[/size][/size]
خادم الحسين- مشترك مجتهد
- عدد الرسائل : 125
نقاط : 0
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 13/05/2008
التوسل/منقول
التوسّل بدعاء النبيّ في حياته البرزخية
الاَوّل: حياة الاَنبياء والأولياء بعد انتقالهم إلى البرزخ
هذا الموضوع هو المهم بين المواضيع التي ذكرت، ويمكن الاستدلال عليه من خلال أُمور بعضها يدلّ على حياتهم بصورة مباشرة وأُخرى غير مباشرة، وإذا لاحظنا مجموع الاَدلّة نقطع بحياتهم البرزخية بلا ريب، وإليك هذه الاَُمور:
أ ـ دلّت الآيات الشريفة على حياة الشهداء ؛ حياة حقيقية مقترنة بآثارها من الرزق والفرح والاستبشار ودرك المعاني والحقائق، قال سبحانه: ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ* يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ )(1).
فالآية تدل على حياة الشهداء وارتزاقهم عند ربهم مقترنة بالآثار الروحية من الفرح والاستبشار بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، وتبشيرهم على أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، إلى غير ذلك ممّا جاء في الآيتين.
إنّ الله سبحانه يطرح حياتهم لاَجل إظهار إكرامه ونعمته عليهم، وبذلك يرد الفكرة السائدة في صدر الرسالة من أن موت الشهيد انتهاءُ حياته. وإذا كان الشهداء أحياءً لاَجل استشهادهم في سبيل دين الله الذي جاء به النبي الاَكرم، فهل يُتصوّر أن يكون الشهداء أحياءً، ولا يكون النبيّ ـ الاَفضل ـ القائد حيّاً، وهذا ما لا تقبله الفطرة السليمة، وأيّ مسلم لهج بخلافه فانّما يلهج بلسانه وينكره بقلبه وعقله.
____________
(1) آل عمران: 169 ـ 171.
( 28 )
ب ـ هذا هو حبيب النجار لم يكن له شأن سوى أنّه صدّق المرسلين ولقى من قومه أذىً شديداً حتى قضى نحبه شهيداً. فنرى أنّه بعد موته خوطب بقوله سبحانه: (قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ ) ثم إنّه بعد دخوله الجنة يتمنّى عرفان قومه مقامه ومصيره بعد الموت فيقول: (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ )(1)فهو يتمنّى في ذلك الحال لو أنّ قومه الموجودين في الدنيا علموا أنّ الله سبحانه غفر له وجعله من المكرمين، يتمنّى ذلك لاَجل أن يرغب قومه في مثل ثوابه وليؤمنوا لينالوا ذلك.
ومن المعلوم أنّ الجنة التي حلّ فيها حبيب النجار كانت قبل يوم القيامة، بشهادة أنّه تمنّى عرفان أهله مقامه وإكرام الله له وهم على قيد الحياة الدنيوية، وإن لحقهم العذاب بعد ذلك، قال: (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ* إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ )(2)فإذا كان الشهداء والصالحون ـ أمثال حبيب النجار المصدِّق للرسل ـ أحياءً يرزقون فما ظنّك بالاَنبياء والصدّيقين المتقدّمين على الشهداء، قال سبحانه: ( وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً )(3)فلو كان الشهيد حياً يرزق فالرسول الاَكرم الذي ربّى الشهداءَ واستوجب لهم تلك المنزلة العليا، أولى بالحياة بعد الوفاة وبعدهم الصدّيقون.
ج ـ دلّت الآيات الكريمة والبراهين العقلية على أنّ الموت ليس فناء الاِنسان ونفاده، وإنّما هو انتقال من عالم إلى آخر، نعم الماديون المنكرون لعالمِ الاَرواح،
____________
(1) يس: 26 ـ 27.
(2) يس: 28 ـ 29.
(3) النساء: 69.
( 29 )والنافون لما وراء الطبيعة يعتقدون بأنّ الموت فناء الاِنسان وضلاله في الاَرض بحيث لا يبقى شيء من بعد ذلك إلاّ الذرّات المادية المبعثرة في الاَرض، ولهذا كانوا ينكرون إمكان إعادة الشخصية البشرية؛ إذ ليس هناك شيء متوسط بين المبتدأ والمعاد.
ولهذا جاء الوحي يندد بتلك الفكرة ويفنِّد دليلهم المبني على قولهم: (أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الاََْرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) فردّهم بقوله: ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ )(1).
وتوضيح الردّ أنّ الموت ليس ضلالاً في الاَرض وأنّ شخصية الاِنسان ليست هي الضالة الضائعة في ثنايا التراب، وإنّما الضال في الاَرض هو أجزاء البدن المادّي، فهذه الاَجزاء هي التي تتبعثر في الاَجواء والاَرض، ولكن هذه لا تشكّل شخصية الاِنسان، بل شخصيته شيء آخر هو الذي يأخذه ملك الموت، وهو عند الله محفوظ، كما يقول: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) فإذاً لا معنى للتوفّي إلاّ الاَخذ وهو أخذ الاَرواح والاَنفس ونزعها من الاَبدان وحفظها عند الله.
وهناك آية أُخرى تفسّر لنا معنى التوفّي بوضوح وأنّه ليس بمعنى الموت والفناء، بلالاَخذ والقبض أيقبض شيءموجودوأخذشيءواقعي،يقول سبحانه: (اللهُ يَتَوَفَّى الاََْنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاَُْخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِيذَلِكَ لاََيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )(2) فمفاد الآية أنّ الله يقبض الاَنفس ويأخذها في مرحلتين: حين الموت وحين النوم، فما قضى عليها بعدم الرجوع إلى الدنيا أمسكها، ولم يردّها إلى الجسد، وما لم يقض
____________
(1) السجدة: 10 ـ 11.
(2) الزمر : 42.
( 30 )عليها كذلك أرسلها إلى أجل مسمّى. كل ذلك يكشف عن أنّ الموت ليس فناءَ الاِنسانِ وآية العدم، بل هناك انخلاع عن الجسد وارتحال إلى عالم آخر.
د ـ وهناك كلمة قيّمة لاَبي الشهداء الحسين بن علي _ عليه السلام _ توضح هذه الحقيقة إذ قال لاَصحابه في يوم عاشوراء: «صبراً يا بني الكرام فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضراء، إلى الجنان الواسعة والنعم الدائمة، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر، وما هو لاَعدائكم إلاّ كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب، إنّ أبي حدّثني عن رسول الله: أنّ الدنيا سجن المؤمن، وجنّة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم ما كذبتُ ولا كُذِّبتُ»(1).
وفي هذه الآيات غنى وكفاية لثبوت الحياة البرزخية للاَنبياء والشهداء والصدّيقين، بل لغيرهم وقد شهدت بذلك الآيات الكريمة التي لا مجال لنقلها(2)، وهذه الحقيقة ممّا أجمع عليها أئمة أهل السنّة، فهذا الاِمام الاَشعري يقول: «ومن عقائدنا أنّ الاَنبياء: أحياءٌ» وقد ألّف كتاباً أسماه «حياة الاَنبياء»(3).
فلنقتصر بهذا البيان في إثبات الموضوع الاَوّل وقد تركنا الاحتجاج على حياتهم بما ورد في السنّة النبويّة وسيوافيك بعضها في المستقبل.
الثاني: الصلة بين الحياة الدنيوية والحياة البرزخية:
هذا هو الموضوع الثاني من المواضيع الثلاثة التي يتوقف عليها إثبات ما هو المقصود في هذا المبحث.
____________
(1) بلاغة الحسين: ص 47.
(2) وقد أشبعنا الكلام في ذلك عند البحث في الحياة البرزخيّة فلاحظ.
(3) طبقات الشافعية 3: 406.
الاَوّل: حياة الاَنبياء والأولياء بعد انتقالهم إلى البرزخ
هذا الموضوع هو المهم بين المواضيع التي ذكرت، ويمكن الاستدلال عليه من خلال أُمور بعضها يدلّ على حياتهم بصورة مباشرة وأُخرى غير مباشرة، وإذا لاحظنا مجموع الاَدلّة نقطع بحياتهم البرزخية بلا ريب، وإليك هذه الاَُمور:
أ ـ دلّت الآيات الشريفة على حياة الشهداء ؛ حياة حقيقية مقترنة بآثارها من الرزق والفرح والاستبشار ودرك المعاني والحقائق، قال سبحانه: ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ* يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ )(1).
فالآية تدل على حياة الشهداء وارتزاقهم عند ربهم مقترنة بالآثار الروحية من الفرح والاستبشار بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، وتبشيرهم على أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، إلى غير ذلك ممّا جاء في الآيتين.
إنّ الله سبحانه يطرح حياتهم لاَجل إظهار إكرامه ونعمته عليهم، وبذلك يرد الفكرة السائدة في صدر الرسالة من أن موت الشهيد انتهاءُ حياته. وإذا كان الشهداء أحياءً لاَجل استشهادهم في سبيل دين الله الذي جاء به النبي الاَكرم، فهل يُتصوّر أن يكون الشهداء أحياءً، ولا يكون النبيّ ـ الاَفضل ـ القائد حيّاً، وهذا ما لا تقبله الفطرة السليمة، وأيّ مسلم لهج بخلافه فانّما يلهج بلسانه وينكره بقلبه وعقله.
____________
(1) آل عمران: 169 ـ 171.
( 28 )
ب ـ هذا هو حبيب النجار لم يكن له شأن سوى أنّه صدّق المرسلين ولقى من قومه أذىً شديداً حتى قضى نحبه شهيداً. فنرى أنّه بعد موته خوطب بقوله سبحانه: (قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ ) ثم إنّه بعد دخوله الجنة يتمنّى عرفان قومه مقامه ومصيره بعد الموت فيقول: (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ )(1)فهو يتمنّى في ذلك الحال لو أنّ قومه الموجودين في الدنيا علموا أنّ الله سبحانه غفر له وجعله من المكرمين، يتمنّى ذلك لاَجل أن يرغب قومه في مثل ثوابه وليؤمنوا لينالوا ذلك.
ومن المعلوم أنّ الجنة التي حلّ فيها حبيب النجار كانت قبل يوم القيامة، بشهادة أنّه تمنّى عرفان أهله مقامه وإكرام الله له وهم على قيد الحياة الدنيوية، وإن لحقهم العذاب بعد ذلك، قال: (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ* إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ )(2)فإذا كان الشهداء والصالحون ـ أمثال حبيب النجار المصدِّق للرسل ـ أحياءً يرزقون فما ظنّك بالاَنبياء والصدّيقين المتقدّمين على الشهداء، قال سبحانه: ( وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً )(3)فلو كان الشهيد حياً يرزق فالرسول الاَكرم الذي ربّى الشهداءَ واستوجب لهم تلك المنزلة العليا، أولى بالحياة بعد الوفاة وبعدهم الصدّيقون.
ج ـ دلّت الآيات الكريمة والبراهين العقلية على أنّ الموت ليس فناء الاِنسان ونفاده، وإنّما هو انتقال من عالم إلى آخر، نعم الماديون المنكرون لعالمِ الاَرواح،
____________
(1) يس: 26 ـ 27.
(2) يس: 28 ـ 29.
(3) النساء: 69.
( 29 )والنافون لما وراء الطبيعة يعتقدون بأنّ الموت فناء الاِنسان وضلاله في الاَرض بحيث لا يبقى شيء من بعد ذلك إلاّ الذرّات المادية المبعثرة في الاَرض، ولهذا كانوا ينكرون إمكان إعادة الشخصية البشرية؛ إذ ليس هناك شيء متوسط بين المبتدأ والمعاد.
ولهذا جاء الوحي يندد بتلك الفكرة ويفنِّد دليلهم المبني على قولهم: (أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الاََْرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) فردّهم بقوله: ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ )(1).
وتوضيح الردّ أنّ الموت ليس ضلالاً في الاَرض وأنّ شخصية الاِنسان ليست هي الضالة الضائعة في ثنايا التراب، وإنّما الضال في الاَرض هو أجزاء البدن المادّي، فهذه الاَجزاء هي التي تتبعثر في الاَجواء والاَرض، ولكن هذه لا تشكّل شخصية الاِنسان، بل شخصيته شيء آخر هو الذي يأخذه ملك الموت، وهو عند الله محفوظ، كما يقول: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) فإذاً لا معنى للتوفّي إلاّ الاَخذ وهو أخذ الاَرواح والاَنفس ونزعها من الاَبدان وحفظها عند الله.
وهناك آية أُخرى تفسّر لنا معنى التوفّي بوضوح وأنّه ليس بمعنى الموت والفناء، بلالاَخذ والقبض أيقبض شيءموجودوأخذشيءواقعي،يقول سبحانه: (اللهُ يَتَوَفَّى الاََْنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاَُْخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِيذَلِكَ لاََيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )(2) فمفاد الآية أنّ الله يقبض الاَنفس ويأخذها في مرحلتين: حين الموت وحين النوم، فما قضى عليها بعدم الرجوع إلى الدنيا أمسكها، ولم يردّها إلى الجسد، وما لم يقض
____________
(1) السجدة: 10 ـ 11.
(2) الزمر : 42.
( 30 )عليها كذلك أرسلها إلى أجل مسمّى. كل ذلك يكشف عن أنّ الموت ليس فناءَ الاِنسانِ وآية العدم، بل هناك انخلاع عن الجسد وارتحال إلى عالم آخر.
د ـ وهناك كلمة قيّمة لاَبي الشهداء الحسين بن علي _ عليه السلام _ توضح هذه الحقيقة إذ قال لاَصحابه في يوم عاشوراء: «صبراً يا بني الكرام فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضراء، إلى الجنان الواسعة والنعم الدائمة، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر، وما هو لاَعدائكم إلاّ كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب، إنّ أبي حدّثني عن رسول الله: أنّ الدنيا سجن المؤمن، وجنّة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم ما كذبتُ ولا كُذِّبتُ»(1).
وفي هذه الآيات غنى وكفاية لثبوت الحياة البرزخية للاَنبياء والشهداء والصدّيقين، بل لغيرهم وقد شهدت بذلك الآيات الكريمة التي لا مجال لنقلها(2)، وهذه الحقيقة ممّا أجمع عليها أئمة أهل السنّة، فهذا الاِمام الاَشعري يقول: «ومن عقائدنا أنّ الاَنبياء: أحياءٌ» وقد ألّف كتاباً أسماه «حياة الاَنبياء»(3).
فلنقتصر بهذا البيان في إثبات الموضوع الاَوّل وقد تركنا الاحتجاج على حياتهم بما ورد في السنّة النبويّة وسيوافيك بعضها في المستقبل.
الثاني: الصلة بين الحياة الدنيوية والحياة البرزخية:
هذا هو الموضوع الثاني من المواضيع الثلاثة التي يتوقف عليها إثبات ما هو المقصود في هذا المبحث.
____________
(1) بلاغة الحسين: ص 47.
(2) وقد أشبعنا الكلام في ذلك عند البحث في الحياة البرزخيّة فلاحظ.
(3) طبقات الشافعية 3: 406.
خادم الحسين- مشترك مجتهد
- عدد الرسائل : 125
نقاط : 0
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 13/05/2008
التوسل/منقول
( 31 )
القول بالحياة البرزخية للاَنبياء والصدّيقين لا يفي وحده بما هو المهم هنا ما لم يثبت أنّ هناك صلة بيننا وبينهم في البرزخ، بحيث يسمعوننا ويستطيعون أن يردّوا علينا، وهذا هو الموضوع الثاني الذي أشرنا إليه وهنا نكتفي بأبرز الآيات الواردة في هذا المضمار التي تدلّ على إمكان الاتصال بالاَرواح المقدسة الموجودة في عالم البرزخ، وهذا وإن أثبته علم النفس بعد تجارب كثيرة، ولكنّنا أخذنا على أنفسنا أن نستدلّ بالكتاب والسنّة، ولو كان هناك شيء في العلم فهو أيضاً يدعم مدلول الكتاب والسنّة.
إنّ الكتاب والسنّة تضافرا على إمكان اتصال الاِنسان الموجود في الدنيا بالاِنسان الحي في عالم البرزخ وقد مرّت البرهنة على وجود الصلة بين الحياتين عند البحث في الحياة البرزخية فراجع(1).
الثالث: سيرة السلف الصالح في التوسّل بدعاء النبي بعد رحيله:
النظر إلى سيرة المسلمين بعد لحوق النبي الاَكرم _ صلى الله عليه وآله وسلم _ بالرفيق الاَعلى يثبت أنّهم كانوا يتوسّلون بدعائه، كتوسّلهم به قبل لحوقه به فما كانوا يرون فرقاً بين الحالتين، فمن تصفّح سيرة المسلمين ورجع إلى غضون الكتب وشاهد عملهم في المسجد النبوي قرب مزاره الشريف، يلمس بسهولة استقرار السيرة على التوسّل بدعائه من غير فرق بين حياته وانتقاله، وها نحن نذكر من أعمال بعض الصحابة والتابعين شيئاً يسيراً ونترك الباقي للمتصفّح في غضون الكتب.
إنّنا لا يمكننا تصديق جميع ما روي لكنّ بين المرويات قضايا صادقة صدرت
____________
(1) يراجع ص430 من هذا الكتاب .
( 32 )عن أُناس صالحين ثم إنّها بكثرتها تدل على أنّ التوسّل كان أمراً رائجاً منذ عصر الصحابة إلى زماننا هذا، ولم يكن أمراً غريباً عند المسلمين.
ولو فرضنا أنّ بعض هذه القضايا تخالف الواقع، فلا ريب أنّه من باب استغلال الوضّاعين لاَصل مسَلَّم صحيح بين المسلمين، وهو صحّة التوسّل بدعاء النبي الاَكرم بعد رحيله؛ فانّهم نسجوا بعض القضايا في ظل ذلك الاَصل.
ولو فرضنا أنّه لم يكن أمراً رائجاً بين المسلمين بل كان أمراً غريباً أو محظوراً لما تجرّأ المستغِل أن ينسج قضية كاذبة على نول الشرك أو المحرم، فانّ الذي يحفّز الوضّاع على نسج الخرافة هو استعداد العامة لقبول تلك الخرافة ولولاه لما تجرّأ عليه لعدم حصول الغاية المتوخّاة من نسجها.
فهذه القضايا الكثيرة تدلّ ـ على كلا التقديرين ـ على المطلوب، فإن كانت صادقة فبصدقها، وإن كانت كاذبة فلاَجل حكايتها عن وجود أصل مسلّم بين المسلمين وهو التوسّل بدعاء النبي الاَكرم قبل وبعد موته، وكان هذا الاَصل ربما يستغل أحياناً من بعض المتاجرين بالدين.
على أنّ بعضها ممّا رواه الاِمام البخاري وسائر أصحاب الصحاح فلنذكر نماذج:
1 ـ هذا أبوبكر: أقبل على فرسه من مسكنه بالسنخ حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلّم الناس حتى دخل على عائشة ـرضي الله عنها ـ فتيمم _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وهو مسجّى ببرد حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبّله ثم بكى، فقال: بأبي أنت يا نبي الله لا يجمع الله عليك موتتين أمّا الموتة التي كتبت عليك فقد مُتَّها(1).
فلو لم تكن هناك صلة بين الحياتين فما معنى قوله: «بأبي أنت يا نبي الله» لو لم يكن سماع فماذا قصد ذلك الصحابي من قوله: «لا يجمع الله عليك موتتين».
____________
(1) البخاري، الصحيح 2: 17، كتاب الجنائز.
( 33 )
2 ـ روى أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي (508 ـ 581 هـ) في الروض الاَنف: «دخل أبو بكر على رسول الله في بيت عائشة ورسول الله مسجّى في ناحية البيت، عليه برد حبرة، فأقبل حتى كشف عن وجه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ثم أقبل عليه فقبّله، ثم قال: بأبي أنت وأُمّي أمّا الموتة التي كتب الله عليك فقد ذُقتها ثم لن تصيبك بعدها موتة أبداً»(1).
3 ـ روى الحلبي علي بن برهان الدين (975 ـ 1044 هـ) في سيرته وقال: «جاء أبو بكر من السنخ وعيناه تهملان فقبّل _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فقال: بأبي أنت وأُمّي طبت حياً وميتاً»(2).
4 ـ روى مفتي مكّة المشرّفة زيني دحلان في سيرته فذكر ما ذكراه، وقال: قال أبوبكر: طبت حياً وميتاً، وانقطع بموتك ما لم ينقطع للاَنبياء قبلك، فعظمت عن الصفة وجللت عن البكاء، ولو أنّ موتك كان اختياراً لجدنا لموتك بالنفوس، اذكرنا يا محمد عند ربك ولنكن على بالك(3).
5 ـ قال أميرالمؤمنين علي _ عليه السلام _ عندما ولي غسل _ صلى الله عليه وآله وسلم _: «بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والاِنباء وأخبار السماء ـ إلى أن قال: ـ بأبي أنت وأُمّي اذكرنا عند ربك واجعلنا من بالك»(4)
وقد أوضح السبكي أمر الاِجماع على الزيارة قولاً وفعلاً، وسرد كلام الاَئمة في ذلك، وبيّن أنّها قربة بالكتاب والسنّة، والاِجماع، والقياس.
____________
(1) الروض الاَُنف 4: 260.
(2) السيرة الحلبية 3: 474 طـ. دار المعرفة، بيروت.
(3) سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية 3: 391، طـ. مصر.
(4) نهج البلاغة: الخطبة 235.
( 34 )
وأمّا الكتاب فقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ ) الآية دالّة على الحث بالمجيء إلى الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ، والاستغفار عنده، واستغفاره لهم وهذه رتبة لا تنقطع بموته _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ، وقد حصل استغفاره لجميع المؤمنين، لقوله تعالى: (اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) فإذا وجد مجيئهم، فاستغفارهم، كملت الاَُمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ولرحمته. وقوله: (واستغفر لهم ) معطوف عليه قوله:( جاءوك ) فلا يقتضي أن يكون استغفار الرسول بعد استغفارهم مع أنّا لا نسلّم أنّه لا يستغفر بعد الموت، لما سبق الدليل على حياته وعلى استغفاره لاَُمَّته بعد الموت عند عرض أعمالهم عليه، ويعلم من كمال رحمته أنّه لا يترك ذلك لمن جاءه مستغفراً ربّه.
والعلماء فهموا من الآية العموم لحالتي الموت والحياة، واستحبّوا لمن أتى القبر أن يتلوها ويستغفر الله تعالى، وحكاية الاَعرابي في ذلك نقلها جماعة من الاَئمة عن العُتبى، واسمه محمد بن عبد الله بن عمرو، أدرك ابن عيينة وروى عنه، وهي مشهورة حكاها المصنّفون في المناسك من جميع المذاهب، واستحسنوها، ورأوها من أدب الزائر، وذكرها ابن عساكر في تاريخه، وابن الجوزي في مثير الغرام الساكن، وغيرهما بأسانيدهم إلى محمد بن حرب الهلالي، قال: دخلت المدينة، فأتيت قبر _ صلى الله عليه وآله وسلم _، فزرته وجلست بحذائه، فجاء أعرابي فزاره، ثم قال: يا خير الرسل إنّ الله أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ـ إلى قوله ـ رحيماً ) وإنّي جئتك مستغفراً ربك من ذنوبي، متشفعاً بك، وفي رواية: وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً بك إلى ربي، ثم بكى وأنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه * فطاب من طيبهنّ القاع والاَكم
نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه * فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم استغفر وانصرف، قال: فرقدت فرأيت [size=9]_ صلى الله عليه وآله وسلم _ في نومي وهو يقول: إلحق
( 35 )الرجل وبشّره بأنّ الله غفر له بشفاعتي، فاستيقظت، فخرجت أطلبه فلم أجده.
قلت: بل قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن موسى بن النعمان في كتابه «مصباح الظلام»: إنّ الحافظ أبا سعيد السمعاني ذكر فيما روينا عنه عن علي بن أبي طالب2 قال: قدم علينا أعرابي بعدما دفنّا رسول الله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر _ صلى الله عليه وآله وسلم _، وحثا من ترابه على رأسه، وقال: يا رسول الله قلت فسمعنا قولك، ووعيت عن الله سبحانه وما وعينا عنك، وكان فيما أُنزل عليك: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ... ) وقد ظلمت، وجئتك تستغفر لي، فنودي من القبر: انّه قد غفر لك، انتهى.
وروى ذلك أبو الحسن علي بن إبراهيم بن عبد الله الكرخي عن علي بن محمد ابن علي، قال: حدثّنا أحمد بن محمد بن الهيثم الطائي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن سلمة بن كهيل، عن ابن صادق، عن علي بن أبي طالب 2، فذكره، ولا منافاة بين النقلين؛ لاِمكان التعدّد، وعلى فرض الوحدة فأحد الناقلين اقتصر؛ والآخر أسهب في النقل، فنقل جميع القصة. وقد أدرك ذلك الاَعرابي بسلامة فطرته أنّ الآية الكريمة التي تدعو المسلمين إلى المجيء إلى النبي حتى يطلبوا منه أن يستغفر لهم، ليست خاصة بحياة النبي الدنيوية، بل تعم الحياة الاَُخروية، فلاَجل ذلك قام يطلب من النبي أن يستغفر له.
وقال عياض في الشفاء بسند جيد عن ابن حميد ـ أحد الرواة ـ عن مالك فيما يظهر، قال: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد [size=9]_ صلى الله عليه وآله وسلم _، فقال له مالك: «يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فانّ الله تعالى أدّب قوماً فقال: (لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىي ) الآية، ومدح قوماً فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ) الآية، وذمّ قوماً فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ ) الآية، وإنّ حرمته ميتاً كحرمته حياً، فاستكان لها
( 36 )أبو جعفر، فقال: يا أبا عبد الله أستقبلُ القبلة وأدعو أم أستقبلُ رسول الله[size=9] _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ؟ فقال: لِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم _ عليه السلام _ إلى الله تعالى يوم القيامة ؟ بل استقبله واستشفع به، فيشفعّه الله تعالى قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ) الآية(1).
فانظر هذا الكلام من مالك، وما اشتمل عليه من أمر الزيارة والتوسّل ب[size=9] _ صلى الله عليه وآله وسلم _ واستقباله عند الدعاء وحسن الاَدب التام معه.
وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الحسين السامري الحنبلي في المستوعب «باب زيارة قبر _ صلى الله عليه وآله وسلم _» وذكر آداب الزيارة، وقال: ثم يأتي حائط القبر فيقف ناحيته ويجعل القبر تلقاء وجهه، والقبلة خلف ظهره، والمنبر عن يساره ، وذكر كيفية السلام والدعاء.
منه: اللّهم إنّك قلت في كتابك لنبيك _ عليه السلام _: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ ) الآية، وإنّي قد أتيت نبيّك مسغفراً، فأسألك أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، اللّهمّ إنّي أتوجه إليك بنبيّك _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وذكر دعاءً طويلاً(2).
هذه نماذج قدمناها إليك لتكون على بيّنة من هذا الاَمر وأنّه لم يكن هناك فرق بين الحياتين، وقد نقل المؤرّخون أُموراً كثيرة يضيق الوقت بنقلها ولو كنّا شاكّين في صدق بعض هذه التوسّلات، ولكن نقل علماء السيرة والتاريخ المقدار الهائل من التوسّلات بدعاء النبي ـ بعد رحيله ـ يكشف عن أنّ التوسّل بدعاء النبي الاَكرم كان أمراً رائجاً بين المسلمين ولم يكن أمراً غريباً ولا محظوراً وإلاّ لما صحّ أن ينقل المؤرّخ ما يراه المسلمون أمراً مرغوباً عنه. وقد ذكرها بعض من المحقّقين في
____________
(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2: 92.
(2) وفاء الوفا 4: 1360 ـ 1362.
( 37 )كتبهم فراجعها(1).
وليس لنا أن نترك السيرة المستمرة الهائلة التي يلمسها من توقف هنيئة لدى القبر الشريف النبوي وقد قال سبحانه: ( وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىوَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً )(2).
وقد نقل السمهودي نبذاً ممّا وقع لمن استغاث بالنبي أو طلب منه شيئاً عند قبره فأُعطي مطلوبه ونال مرغوبه ممّا ذكره الاِمام محمد بن موسى بن النعمان في كتابه «مصباح الظلام في المستغيثين بخير الاَنام»(3).
[size=16]التلوّن في الاستدلال
نرى أنّ المانعين عن التوسّل بدعاء النبي في حياته البرزخية يتلوّنون في الاستدلال، فتارة ينفون حياة النبي بعد الموت، وأُخرى ينفون إمكان الاتصال، وثالثة يدعون لغوية هذا العمل، ونعوذ بالله من قولهم الرابع إذ يعدّون العمل شركاً وعبادة للرسول، أمّا الثلاث الاَُول فقد ظهرت حالها، وأمّا الشرك فلا يدرى كيف يوصف به، مع أنّ هذا عمل واحد يُطلَب في حياة النبي ويُطلَب بعد انتقاله إلى الرفيق الاَعلى أفيمكن أن يكون شيء واحد توحيداً في حالة وشركاً في أُخرى؟ مع أنّه لا يسأل الرسولُ بما أنّه إله أو ربّ، أو بيده مصير الداعي، وإنّما يسأله بما أنّه عبد صالح ذو نفس طاهرة وكريمة وهو أفضل الخلائق وأحد الاَمانين في الاَرض يستجاب دعاؤه ولا يرد.
____________
(1) لاحظ شفاء السقام في زيارة خير الاَنام للسبكي، والدرر السنية لزيني دحلان، والمبرد المبكي في ردّ الصارم المنكي لابن علان، ونصرة الاِمام السبكي برد الصارم المنكي للسمهودي.
(2) النساء: 115.
(3) وفاء الوفا 4: 1380 ـ 1387. طالع ذلك الفصل تجد فيه حكايات وقضايا كثيرة تدل على جريان السيرة بين المسلمين على التوسّل بدعاء النبي الاَكرم.
[/size][/size][/size][/size][/size]
القول بالحياة البرزخية للاَنبياء والصدّيقين لا يفي وحده بما هو المهم هنا ما لم يثبت أنّ هناك صلة بيننا وبينهم في البرزخ، بحيث يسمعوننا ويستطيعون أن يردّوا علينا، وهذا هو الموضوع الثاني الذي أشرنا إليه وهنا نكتفي بأبرز الآيات الواردة في هذا المضمار التي تدلّ على إمكان الاتصال بالاَرواح المقدسة الموجودة في عالم البرزخ، وهذا وإن أثبته علم النفس بعد تجارب كثيرة، ولكنّنا أخذنا على أنفسنا أن نستدلّ بالكتاب والسنّة، ولو كان هناك شيء في العلم فهو أيضاً يدعم مدلول الكتاب والسنّة.
إنّ الكتاب والسنّة تضافرا على إمكان اتصال الاِنسان الموجود في الدنيا بالاِنسان الحي في عالم البرزخ وقد مرّت البرهنة على وجود الصلة بين الحياتين عند البحث في الحياة البرزخية فراجع(1).
الثالث: سيرة السلف الصالح في التوسّل بدعاء النبي بعد رحيله:
النظر إلى سيرة المسلمين بعد لحوق النبي الاَكرم _ صلى الله عليه وآله وسلم _ بالرفيق الاَعلى يثبت أنّهم كانوا يتوسّلون بدعائه، كتوسّلهم به قبل لحوقه به فما كانوا يرون فرقاً بين الحالتين، فمن تصفّح سيرة المسلمين ورجع إلى غضون الكتب وشاهد عملهم في المسجد النبوي قرب مزاره الشريف، يلمس بسهولة استقرار السيرة على التوسّل بدعائه من غير فرق بين حياته وانتقاله، وها نحن نذكر من أعمال بعض الصحابة والتابعين شيئاً يسيراً ونترك الباقي للمتصفّح في غضون الكتب.
إنّنا لا يمكننا تصديق جميع ما روي لكنّ بين المرويات قضايا صادقة صدرت
____________
(1) يراجع ص430 من هذا الكتاب .
( 32 )عن أُناس صالحين ثم إنّها بكثرتها تدل على أنّ التوسّل كان أمراً رائجاً منذ عصر الصحابة إلى زماننا هذا، ولم يكن أمراً غريباً عند المسلمين.
ولو فرضنا أنّ بعض هذه القضايا تخالف الواقع، فلا ريب أنّه من باب استغلال الوضّاعين لاَصل مسَلَّم صحيح بين المسلمين، وهو صحّة التوسّل بدعاء النبي الاَكرم بعد رحيله؛ فانّهم نسجوا بعض القضايا في ظل ذلك الاَصل.
ولو فرضنا أنّه لم يكن أمراً رائجاً بين المسلمين بل كان أمراً غريباً أو محظوراً لما تجرّأ المستغِل أن ينسج قضية كاذبة على نول الشرك أو المحرم، فانّ الذي يحفّز الوضّاع على نسج الخرافة هو استعداد العامة لقبول تلك الخرافة ولولاه لما تجرّأ عليه لعدم حصول الغاية المتوخّاة من نسجها.
فهذه القضايا الكثيرة تدلّ ـ على كلا التقديرين ـ على المطلوب، فإن كانت صادقة فبصدقها، وإن كانت كاذبة فلاَجل حكايتها عن وجود أصل مسلّم بين المسلمين وهو التوسّل بدعاء النبي الاَكرم قبل وبعد موته، وكان هذا الاَصل ربما يستغل أحياناً من بعض المتاجرين بالدين.
على أنّ بعضها ممّا رواه الاِمام البخاري وسائر أصحاب الصحاح فلنذكر نماذج:
1 ـ هذا أبوبكر: أقبل على فرسه من مسكنه بالسنخ حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلّم الناس حتى دخل على عائشة ـرضي الله عنها ـ فتيمم _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وهو مسجّى ببرد حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبّله ثم بكى، فقال: بأبي أنت يا نبي الله لا يجمع الله عليك موتتين أمّا الموتة التي كتبت عليك فقد مُتَّها(1).
فلو لم تكن هناك صلة بين الحياتين فما معنى قوله: «بأبي أنت يا نبي الله» لو لم يكن سماع فماذا قصد ذلك الصحابي من قوله: «لا يجمع الله عليك موتتين».
____________
(1) البخاري، الصحيح 2: 17، كتاب الجنائز.
( 33 )
2 ـ روى أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي (508 ـ 581 هـ) في الروض الاَنف: «دخل أبو بكر على رسول الله في بيت عائشة ورسول الله مسجّى في ناحية البيت، عليه برد حبرة، فأقبل حتى كشف عن وجه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ثم أقبل عليه فقبّله، ثم قال: بأبي أنت وأُمّي أمّا الموتة التي كتب الله عليك فقد ذُقتها ثم لن تصيبك بعدها موتة أبداً»(1).
3 ـ روى الحلبي علي بن برهان الدين (975 ـ 1044 هـ) في سيرته وقال: «جاء أبو بكر من السنخ وعيناه تهملان فقبّل _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فقال: بأبي أنت وأُمّي طبت حياً وميتاً»(2).
4 ـ روى مفتي مكّة المشرّفة زيني دحلان في سيرته فذكر ما ذكراه، وقال: قال أبوبكر: طبت حياً وميتاً، وانقطع بموتك ما لم ينقطع للاَنبياء قبلك، فعظمت عن الصفة وجللت عن البكاء، ولو أنّ موتك كان اختياراً لجدنا لموتك بالنفوس، اذكرنا يا محمد عند ربك ولنكن على بالك(3).
5 ـ قال أميرالمؤمنين علي _ عليه السلام _ عندما ولي غسل _ صلى الله عليه وآله وسلم _: «بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والاِنباء وأخبار السماء ـ إلى أن قال: ـ بأبي أنت وأُمّي اذكرنا عند ربك واجعلنا من بالك»(4)
وقد أوضح السبكي أمر الاِجماع على الزيارة قولاً وفعلاً، وسرد كلام الاَئمة في ذلك، وبيّن أنّها قربة بالكتاب والسنّة، والاِجماع، والقياس.
____________
(1) الروض الاَُنف 4: 260.
(2) السيرة الحلبية 3: 474 طـ. دار المعرفة، بيروت.
(3) سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية 3: 391، طـ. مصر.
(4) نهج البلاغة: الخطبة 235.
( 34 )
وأمّا الكتاب فقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ ) الآية دالّة على الحث بالمجيء إلى الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ، والاستغفار عنده، واستغفاره لهم وهذه رتبة لا تنقطع بموته _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ، وقد حصل استغفاره لجميع المؤمنين، لقوله تعالى: (اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) فإذا وجد مجيئهم، فاستغفارهم، كملت الاَُمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ولرحمته. وقوله: (واستغفر لهم ) معطوف عليه قوله:( جاءوك ) فلا يقتضي أن يكون استغفار الرسول بعد استغفارهم مع أنّا لا نسلّم أنّه لا يستغفر بعد الموت، لما سبق الدليل على حياته وعلى استغفاره لاَُمَّته بعد الموت عند عرض أعمالهم عليه، ويعلم من كمال رحمته أنّه لا يترك ذلك لمن جاءه مستغفراً ربّه.
والعلماء فهموا من الآية العموم لحالتي الموت والحياة، واستحبّوا لمن أتى القبر أن يتلوها ويستغفر الله تعالى، وحكاية الاَعرابي في ذلك نقلها جماعة من الاَئمة عن العُتبى، واسمه محمد بن عبد الله بن عمرو، أدرك ابن عيينة وروى عنه، وهي مشهورة حكاها المصنّفون في المناسك من جميع المذاهب، واستحسنوها، ورأوها من أدب الزائر، وذكرها ابن عساكر في تاريخه، وابن الجوزي في مثير الغرام الساكن، وغيرهما بأسانيدهم إلى محمد بن حرب الهلالي، قال: دخلت المدينة، فأتيت قبر _ صلى الله عليه وآله وسلم _، فزرته وجلست بحذائه، فجاء أعرابي فزاره، ثم قال: يا خير الرسل إنّ الله أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ـ إلى قوله ـ رحيماً ) وإنّي جئتك مستغفراً ربك من ذنوبي، متشفعاً بك، وفي رواية: وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً بك إلى ربي، ثم بكى وأنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه * فطاب من طيبهنّ القاع والاَكم
نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه * فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم استغفر وانصرف، قال: فرقدت فرأيت [size=9]_ صلى الله عليه وآله وسلم _ في نومي وهو يقول: إلحق
( 35 )الرجل وبشّره بأنّ الله غفر له بشفاعتي، فاستيقظت، فخرجت أطلبه فلم أجده.
قلت: بل قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن موسى بن النعمان في كتابه «مصباح الظلام»: إنّ الحافظ أبا سعيد السمعاني ذكر فيما روينا عنه عن علي بن أبي طالب2 قال: قدم علينا أعرابي بعدما دفنّا رسول الله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر _ صلى الله عليه وآله وسلم _، وحثا من ترابه على رأسه، وقال: يا رسول الله قلت فسمعنا قولك، ووعيت عن الله سبحانه وما وعينا عنك، وكان فيما أُنزل عليك: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ... ) وقد ظلمت، وجئتك تستغفر لي، فنودي من القبر: انّه قد غفر لك، انتهى.
وروى ذلك أبو الحسن علي بن إبراهيم بن عبد الله الكرخي عن علي بن محمد ابن علي، قال: حدثّنا أحمد بن محمد بن الهيثم الطائي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن سلمة بن كهيل، عن ابن صادق، عن علي بن أبي طالب 2، فذكره، ولا منافاة بين النقلين؛ لاِمكان التعدّد، وعلى فرض الوحدة فأحد الناقلين اقتصر؛ والآخر أسهب في النقل، فنقل جميع القصة. وقد أدرك ذلك الاَعرابي بسلامة فطرته أنّ الآية الكريمة التي تدعو المسلمين إلى المجيء إلى النبي حتى يطلبوا منه أن يستغفر لهم، ليست خاصة بحياة النبي الدنيوية، بل تعم الحياة الاَُخروية، فلاَجل ذلك قام يطلب من النبي أن يستغفر له.
وقال عياض في الشفاء بسند جيد عن ابن حميد ـ أحد الرواة ـ عن مالك فيما يظهر، قال: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد [size=9]_ صلى الله عليه وآله وسلم _، فقال له مالك: «يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فانّ الله تعالى أدّب قوماً فقال: (لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىي ) الآية، ومدح قوماً فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ) الآية، وذمّ قوماً فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ ) الآية، وإنّ حرمته ميتاً كحرمته حياً، فاستكان لها
( 36 )أبو جعفر، فقال: يا أبا عبد الله أستقبلُ القبلة وأدعو أم أستقبلُ رسول الله[size=9] _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ؟ فقال: لِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم _ عليه السلام _ إلى الله تعالى يوم القيامة ؟ بل استقبله واستشفع به، فيشفعّه الله تعالى قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ) الآية(1).
فانظر هذا الكلام من مالك، وما اشتمل عليه من أمر الزيارة والتوسّل ب[size=9] _ صلى الله عليه وآله وسلم _ واستقباله عند الدعاء وحسن الاَدب التام معه.
وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الحسين السامري الحنبلي في المستوعب «باب زيارة قبر _ صلى الله عليه وآله وسلم _» وذكر آداب الزيارة، وقال: ثم يأتي حائط القبر فيقف ناحيته ويجعل القبر تلقاء وجهه، والقبلة خلف ظهره، والمنبر عن يساره ، وذكر كيفية السلام والدعاء.
منه: اللّهم إنّك قلت في كتابك لنبيك _ عليه السلام _: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ ) الآية، وإنّي قد أتيت نبيّك مسغفراً، فأسألك أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، اللّهمّ إنّي أتوجه إليك بنبيّك _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وذكر دعاءً طويلاً(2).
هذه نماذج قدمناها إليك لتكون على بيّنة من هذا الاَمر وأنّه لم يكن هناك فرق بين الحياتين، وقد نقل المؤرّخون أُموراً كثيرة يضيق الوقت بنقلها ولو كنّا شاكّين في صدق بعض هذه التوسّلات، ولكن نقل علماء السيرة والتاريخ المقدار الهائل من التوسّلات بدعاء النبي ـ بعد رحيله ـ يكشف عن أنّ التوسّل بدعاء النبي الاَكرم كان أمراً رائجاً بين المسلمين ولم يكن أمراً غريباً ولا محظوراً وإلاّ لما صحّ أن ينقل المؤرّخ ما يراه المسلمون أمراً مرغوباً عنه. وقد ذكرها بعض من المحقّقين في
____________
(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2: 92.
(2) وفاء الوفا 4: 1360 ـ 1362.
( 37 )كتبهم فراجعها(1).
وليس لنا أن نترك السيرة المستمرة الهائلة التي يلمسها من توقف هنيئة لدى القبر الشريف النبوي وقد قال سبحانه: ( وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىوَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً )(2).
وقد نقل السمهودي نبذاً ممّا وقع لمن استغاث بالنبي أو طلب منه شيئاً عند قبره فأُعطي مطلوبه ونال مرغوبه ممّا ذكره الاِمام محمد بن موسى بن النعمان في كتابه «مصباح الظلام في المستغيثين بخير الاَنام»(3).
[size=16]التلوّن في الاستدلال
نرى أنّ المانعين عن التوسّل بدعاء النبي في حياته البرزخية يتلوّنون في الاستدلال، فتارة ينفون حياة النبي بعد الموت، وأُخرى ينفون إمكان الاتصال، وثالثة يدعون لغوية هذا العمل، ونعوذ بالله من قولهم الرابع إذ يعدّون العمل شركاً وعبادة للرسول، أمّا الثلاث الاَُول فقد ظهرت حالها، وأمّا الشرك فلا يدرى كيف يوصف به، مع أنّ هذا عمل واحد يُطلَب في حياة النبي ويُطلَب بعد انتقاله إلى الرفيق الاَعلى أفيمكن أن يكون شيء واحد توحيداً في حالة وشركاً في أُخرى؟ مع أنّه لا يسأل الرسولُ بما أنّه إله أو ربّ، أو بيده مصير الداعي، وإنّما يسأله بما أنّه عبد صالح ذو نفس طاهرة وكريمة وهو أفضل الخلائق وأحد الاَمانين في الاَرض يستجاب دعاؤه ولا يرد.
____________
(1) لاحظ شفاء السقام في زيارة خير الاَنام للسبكي، والدرر السنية لزيني دحلان، والمبرد المبكي في ردّ الصارم المنكي لابن علان، ونصرة الاِمام السبكي برد الصارم المنكي للسمهودي.
(2) النساء: 115.
(3) وفاء الوفا 4: 1380 ـ 1387. طالع ذلك الفصل تجد فيه حكايات وقضايا كثيرة تدل على جريان السيرة بين المسلمين على التوسّل بدعاء النبي الاَكرم.
[/size][/size][/size][/size][/size]
خادم الحسين- مشترك مجتهد
- عدد الرسائل : 125
نقاط : 0
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 13/05/2008
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى